الْمِرْفَقِ مِمَّا يَلِي الْكَتِفَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَسَنَتَيْنِ بَدَلٌ مِنْ: الْمِرْمَاتَيْنِ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْعَظْمُ الَّذِي لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا السَّهْمَانِ الصَّغِيرَانِ، فَالْحَسَنَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَيِّدَتَيْنِ صِفَةٌ لِمِرْمَاتَيْنِ. (لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ التَّوْبِيخُ، أَيْ: لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنْ لَوْ حَضَرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ أَوْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِشَاءِ الصَّلَاةُ لَحَصَلَ لَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ لَحَضَرَهَا، وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا صَغِيرًا، وَمَا يَحْضُرُ الصَّلَاةَ وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ.
قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كِفَايَةً لَمَا اسْتَحَقَّ بَعْضُ التَّارِكِينَ التَّعْذِيبَ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ الْقَائِلُ بِالْكِفَايَةِ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الِافْتِرَاضِ إِظْهَارُ الشِّعَارِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تُقَامُ عَلَى عَهْدِهِ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مَا قَالَ، وَهَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِثْلُهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَنَائِزِ مَعَ إِقَامَتِهَا بِغَيْرِهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، قَالَ: وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» "، أَيْ: الشَّاةَ الْبَعِيدَةَ مِنَ الرَّاعِي. وَاسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ وَهُوَ غَلَبَتُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَتَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَى مُخْتَارِ مَذْهَبِنَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ كَمَالِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، قَالَ: وَذَهَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَتَمَسَّكُوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَيْ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْبَابِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِ صِحَّةِ مَا فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ فِي الْجُمْلَةِ بِلَا جَمَاعَةٍ، وَلَا شَكَّ فِيهِ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَاهُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا بِلَا جَمَاعَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُنِّيَّتِهَا، لِجَوَازِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ تَرْكُهَا مُؤَثِّمًا لَا مُفْسِدًا، قَالَ: وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ التَّحْرِيقَ لِاسْتِهَانَتِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِهَا إِلَّا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلِمُشَابَهَتِهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ وَالشَّاكِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ: إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: بِوُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا فِي الصِّحَّةِ اهـ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَقِيلَ: عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفِي الْغَايَةِ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفِي الْمُفِيدِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ; وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةٌ لِوُجُوبِهَا بِالسُّنَّةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: تَجِبُ عَلَى الْعُقَلَاءِ، الْبَالِغِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ أَصْحَابِنَا، بَلْ إِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ لِلْجَمَاعَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ مُنْفَرِدًا فَحَسَنٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ يَجْمَعُ بِأَهْلِهِ أَحْيَانًا هَلْ يَنَالُ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَيَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا بِلَا عُذْرٍ، فَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْمَرَضُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَكَوْنُهُ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ مَفْلُوجًا، أَوْ مُسْتَخْفِيًا مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ غَرِيمٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ كَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ وَغَيْرِهِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَالْأَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ، وَالْخِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ لَا الْجَمَاعَةِ، فَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى، وَبِالْمَطَرِ، وَالطِّينِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصُّبْحِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute