ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمَنَاقِبِ الْحِسَانِ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَفْهَمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ تَنْقِيصُهُمْ وَلَا نِسْبَتُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِهِ ; لِأَنَّهُمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَوَّلًا يَأْخُذُ بِمَا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِالسُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِقَوْلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذَ بِمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَوْلًا لَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، بَلْ يَجْتَهِدُ كَمَا اجْتَهَدُوا.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْهُ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ، وَإِذَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتَرْنَا، وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: وَاعَجَبًا لِلنَّاسِ، يَقُولُونَ: أُفْتِي بِالرَّأْيِ، مَا أُفْتِي إِلَّا بِالْأَثَرِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ بِرَأْيِهِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا مَعَ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا مَعَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَنَتَخَيَّرُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَقْرَبَهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى السُّنَّةِ وَنَجْتَهِدُ، وَمَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَالِاجْتِهَادُ بِالرَّأْيِ لِمَنْ عَرَفَ الِاخْتِلَافَ، وَلِدِقَّةِ قِيَاسَاتِ مَذْهَبِهِ كَانَ الْمُزَنِيُّ يُكْثِرُ النَّظَرَ فِي كَلَامِهِمْ، حَتَّى حَمَلَ ابْنَ أُخْتِهِ الْإِمَامَ الطَّحَاوِيَّ عَلَى أَنِ انْتَقَلَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الطَّحَاوِيُّ نَفْسُهُ اهـ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اعْلَمْ أَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» "، وَقَوْلُهُ: " «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا» ". وَالْعُلَمَاءُ خَصُّوهُ بِأُمُورٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا وَمَقِيسَةٍ، فَمِنَ الْأَوَّلِ مَا صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "، «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ» " وَكَوْنُهُ لَيْلًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي مُسْلِمٍ " «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِلَّا بِاللَّيْلِ» " وَمِنَ الثَّانِي، حُسْنُ الْمَلَابِسِ، وَمُزَاحَمَةُ الرِّجَالِ ; لِأَنَّ إِخْرَاجَ الطِّيبِ لِتَحْرِيكِ الدَّاعِيَةِ، فَلَمَّا فُقِدَ الْآنَ مِنْهُنَّ هَذَا ; لِأَنَّهُنَّ يَتَكَلَّفْنَ لِلْخُرُوجِ مَا لَمْ يَكُنَّ عَلَيْهِ فِي الْمَنْزِلِ مُنِعْنَ مُطْلَقًا، لَا يُقَالُ هَذَا حِينَئِذٍ نَسْخٌ بِالتَّعْلِيلِ ; لِأَنَّا نَقُولُ الْمَنْعُ حِينَئِذٍ ثَبَتَ بِالْعُمُومَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْفِتَنِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ بِشَرْطٍ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ كَانْتِهَاءِ الْحَاكِمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ.
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَا أَحْدَثَتِ النِّسَاءُ بَعْدَهُ، لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى أَنَّ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدِهِ فِي التَّمْهِيدِ، عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ: " «أَيُّهَا النَّاسُ انْهُوا نِسَاءَكُمْ عَنْ لُبْسِ الزِّينَةِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِسَاؤُهُمُ الزِّينَةَ وَتَبَخْتَرْنَ فِي الْمَسَاجِدِ» "، وَبِالنَّظَرِ إِلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ مُنِعَتْ غَيْرُ الْمُتَزَيِّنَةِ، أَيْضًا لِغَلَبَةِ الْفُسَّاقِ لَيْلًا، وَإِنْ كَانَ النَّصُّ يُبِيحُهُ ; لِأَنَّ الْفُسَّاقَ فِي زَمَانِنَا كَثُرَ انْتِشَارُهُمْ وَتَعَرُّضُهُمْ بِاللَّيْلِ، بِخِلَافِ الصُّبْحِ فَإِنَّ الْغَالِبَ نَوْمُهُمْ فِي وَقْتِهِ، بَلْ عَمَّمَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمَنْعَ لِلْعَجَائِزِ وَالشَّوَابِّ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute