إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَمَنْ هَاجَرَ أَوَّلًا فَشَرَفُهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: ١٠] الْآيَةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْهِجْرَةُ الْيَوْمَ مُنْقَطِعَةٌ وَفَضِيلَتُهَا مَوْرُوثَةٌ، فَأَوْلَادُ الْمُهَاجِرِينَ مُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ اهـ. وَهُوَ مَوْضِعُ بَحْثٍ.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمُعْتَبَرُ الْيَوْمَ الْهِجْرَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، وَهِيَ الْهِجْرَةُ مِنَ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ الْأَوْرَعُ أَوْلَى. (فَإِنْ كَانُوا) أَيْ: بَعْدَ اسْتِوَائِهِمْ فِيمَا سَبَقَ (فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَقْدَمِ فِي الْهِجْرَةِ وَالْأَسْبَقِ فِي الْإِيمَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَقْدَمُهُمْ مُسْلِمًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَسَنُّ أَقْدَمَ ; لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ الْمُخْتَارُ الْجُمْهُورُ حَدِيثُ: " «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ» " وَكَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ دَلِيلَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ» "، وَدَلِيلَ الثَّانِي قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، وَهَذَا آخِرُ الْأَمْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَلِزِيَادَةِ سَبْقِهِ بِالْإِيمَانِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْهِجْرَةِ وَكِبَرِ سِنِّهِ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ» " فَإِنْ صَحَّ وَإِلَّا فَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ مَحَلُّ مَا بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، وَالَّذِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُمَا التَّقْدِيمُ بِالْهِجْرَةِ، وَقَدِ انْتَسَخَ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ فَوَضَعُوا مَكَانَهَا الْهِجْرَةَ عَنِ الْخَطَايَا.
وَفِي حَدِيثِ: الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا هَاجَرَ فَالَّذِي نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْهُ إِذَا اسْتَوَيَا فِيمَا قَبْلَهَا وَكَذَا إِذَا اسْتَوَيَا فِي سَائِرِ الْفَضَائِلِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْدَمُ وَرَعًا قُدِّمَ، وَحَدِيثُ: " «وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» " تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَذَانِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السِّنِّ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَبُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَوْا فِي الْحُسْنِ فَأَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فِي هَذِهِ كُلِّهَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَوِ الْخِيَارُ إِلَى الْقَوْمِ.
( «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» ) أَيْ: فِي مَظْهَرِ سَلْطَنَتِهِ وَمَحَلِّ وِلَايَتِهِ، أَوْ فِيمَا يَمْلِكُهُ، أَوْ فِي مَحَلٍّ يَكُونُ فِي حُكْمِهِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي أَهْلِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ فِي بَيْتِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ إِمَامَ الْمَسْجِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شُرِعَتْ لِاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الطَّاعَةِ وَتَآلُفِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ، فَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَوْهِينِ أَمْرِ السَّلْطَنَةِ، وَخَلْعِ رِبْقَةِ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَمَّهُ فِي قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّقَاطُعِ، وَظُهُورِ الْخِلَافِ الَّذِي شُرِعَ لِدَفْعِهِ الِاجْتِمَاعُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ رَجُلٌ عَلَى ذِي السَّلْطَنَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَاتِ، وَلَا عَلَى إِمَامِ الْحَيِّ وَرَبِّ الْبَيْتِ إِلَّا بِالْإِذْنِ. قَالَهُ الطِّيبِيُّ (وَلَا يَقْعُدْ) : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، أَيِ الرَّجُلُ (فِي بَيْتِهِ) أَيْ: بَيْتِ الرَّجُلِ الْآخَرِ (عَلَى تَكْرِمَتِهِ) : كَسَجَّادَتِهِ أَوْ سَرِيرِهِ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ كَرَّمَ تَكْرِيمًا أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مَا يُعَدُّ لِلرَّجُلِ إِكْرَامًا لَهُ فِي مَنْزِلِهِ (إِلَّا بِإِذْنِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ.
(رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: " «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ» ) أَيْ: وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute