(ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فِي نَفْسِهِ (خِفَّةً) أَيْ: مِنَ الْمَرَضِ وَقُوَّةً عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ (وَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا: الْعَبَّاسُ) : وَالْآخَرُ: عَلِيٌّ، كَمَا سَيَأْتِي (لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ) أَيْ: شَرَعَ (لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ) أَيْ: أَشَارَ (إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، قَالَ: " أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ "، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ) أَيِ الرَّاوِي: (فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) أَيْ: وَعَنْ صَلَاتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ (قَالَ: هَاتِ) : مُفْرَدُ هَاتُوا بِمَعْنَى أَحْضِرْ (فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ) أَيْ: عَلَيْهِ (مِنْهُ) أَيْ: مِمَّا ذَكَرَهُ (شَيْئًا) : مَصْدَرٌ، أَيْ: مَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: مَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ) أَيْ: إِلَّا هَذَا الْإِنْكَارَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنَّهُ أَنْكَرَ عَدَمَ تَسْمِيَتِهَا لِمَنْ مَعَ الْعَبَّاسِ ; حَيْثُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ (الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟) : قِيلَ: كَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمْ تُسَمِّ عَلِيًّا مَعَ الْعَبَّاسِ لَمَّا كَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: إِنَّمَا هَجَرَتِ اسْمَهُ لَا أَنَّهَا أَبْغَضَتْهُ بِقَلْبِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا: " «إِنِّي أَعْرِفُ رِضَاكِ وَعَدَمَ رِضَاكِ عَنِّي " فَقَالَتْ: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " تَقُولِينَ عِنْدَ الرِّضَا، لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ". فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَكِنِّي مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ» مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا مَا سَمَّتْهُ لِنِسْيَانِهَا، أَوْ ذُهُولِهَا، أَوْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ أَنَّهُ الثَّانِي أَوْ أُسَامَةُ كَمَا قِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: وَوَجْهُ عَدَمِ تَسْمِيَتِهَا لَهُ قِيلَ: مَا كَانَ فِي نَفْسِهَا مِنْهُ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَتِهَا: «النِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ» ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهَا سَمَّتْهُ فِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّمَا أَبْهَمَتْهُ فِي هَذِهِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَاتٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ وَلَدُهُ الْفَضْلُ تَارَةً أُخْرَى وَعَلِيٌّ أُخْرَى، فَإِبْهَامُهُ لِأَنَّهُ تَعَدَّدَ لَا لِمَا ذُكِرَ اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْهُ لَكَ أَوْ مَا سَمَّتْهُ لَكَ؟ (قُلْتُ: لَا، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا» ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ: «آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ» ، فَأَوَّلًا: لَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ، وَثَانِيًا: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا تَعَارُضَ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا إِمَامًا صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّبْتِ أَوِ الْأَحَدِ، وَالَّتِي كَانَ فِيهَا مَأْمُومًا الصُّبْحُ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَهَى آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا يُخَالِفُ هَذَا مَا ثَبَتَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي صَلَاتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَكَشْفِ السِّتْرِ ثُمَّ إِرْخَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ وَأَدْرَكَ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَذَكَرَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْلَعَ عَنْهُ الْوَعْكُ، أَيِ: الْحُمَّى لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، فَغَدَا إِلَى الصُّبْحِ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغُلَامٍ لَهُ، وَقَدْ سَجَدَ النَّاسُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَاسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِثَوْبِهِ فَقَدَّمَهُ فِي مُصَلَّاةٍ فَصُفَّا جَمِيعًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَقْرَأُ، فَرَكَعَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُخْرَى، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قَضَى سُجُودَهُ فَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّكْعَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ فِي عَهْدِهِ إِلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا بَعَثَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ فِي وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَئِذٍ أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ عَنْ عُرْوَةَ فَذَكَرَهُ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا أَبُو بَكْرٍ مَأْمُومًا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهِيَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَالَّتِي كَانَ فِيهَا إِمَامًا الصُّبْحُ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بَيْنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغُلَامٍ لَهُ فَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ الْجَمْعُ اهـ.
وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ كَشْفِ السِّتَارَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ كَشْفَهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ ضَاحِكًا، وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبِهِ ظَنًّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ صَلَاةَ الْفَجْرِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَمَا أَسْنَدَ عَنْ جَابِرٍ، وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ اقْتِدَاءَ الْجَالِسِينَ بِهِمَا وَهُمَا جَالِسَانِ لِلْمَرَضِ، وَإِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْلَمَا بِالنَّاسِخِ، وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَمُّوا جَالِسِينَ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَعِلْمُ الْخَاصَّةِ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضٍ وَيَعْزُبُ عَنْ بَعْضٍ اهـ كَلَامُ الْمُحَقِّقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute