للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَعَنْ يَسَارِي نُورًا» ) ، أَيْ: فِي جَانِبِي، أَوْ فِي جَارِحَتِي، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالنُّورِ ضِيَاءَ الْحَقِّ، يَعْنِي اسْتَعْمِلْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مِنِّي فِي الْحَقِّ، وَاجْعَلْ تَصَرُّفِي وَتَقَلُّبِي فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ. (" وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي ") ، أَيْ: قُدَّامِي (" نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي إِيرَادِ عَدَمِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي هَذِهِ الْجَوَانِبِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَامِ الْإِنَارَةِ وَإِحَاطَتِهَا ; إِذِ الْإِنْسَانُ يُحِيطُ بِهِ ظُلُمَاتُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا إِلَّا بِالْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأَنْوَارُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، فَيَكُونُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: ٢٢] ، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: ١٢٢] ، قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ فَتَأَمَّلْ، فَإِنَّهُ لَا مَنْعَ، ثُمَّ قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ، فَنُورُ السَّمْعِ مُظْهِرٌ لِلْمَسْمُوعَاتِ، وَنُورُ الْبَصَرِ كَاشِفٌ لِلْمُبْصَرَاتِ، وَنُورُ الْقَلْبِ كَاشِفٌ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنُورُ الْجَوَارِحِ مَا يَبْدُو عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَى طَلَبِ النُّورِ لِلْأَعْضَاءِ عُضْوًا عُضْوًا أَنْ يَتَحَلَّى كُلُّ عُضْوٍ بِأَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ وَالطَّاعَةِ، وَيَتَعَرَّى عَنْ ظُلْمَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَإِنَّ ظُلُمَاتِ الْجُمْلَةِ مُحِيطَةٌ بِالْإِنْسَانِ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَالشَّيْطَانُ يَأْتِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ بِالْوَسَاوِسِ وَالشُّبُهَاتِ، أَيِ: الْمُشَبَّهَاتُ بِالظُّلُمَاتِ فَرَفْعُ كُلِّ ظُلْمَةٍ بِنُورٍ، قَالَ: وَلَا مُخَلِّصَ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْوَارٍ تَسْتَأْصِلُ شَأْفَةَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَلْبَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ بِـ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْقَلْبَ مَقَرُّ الْفِكْرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَصَرَ مَسَارِحُ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَنْصُوبَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، وَالسَّمْعَ مَحَطُّ آيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَالْيَمِينَ وَالشَّمَالَ خُصَّا بِـ (عَنْ) لِلْإِيذَانِ بِتَجَاوُزِ الْأَنْوَارِ عَنْ قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ إِلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَعُزِلَتْ فَوْقَ وَتَحْتَ وَأَمَامَ وَخَلْفَ مِنَ الْجَارَّةِ لِتَشْمَلَ اسْتِنَارَتَهُ وَإِنَارَتَهُ مَعًا مِنَ اللَّهِ وَالْخَلْقِ، ثُمَّ أَجْمَلَ بِقَوْلِهِ: (" وَاجْعَلْ لِي نُورًا ") : فَذْلَكَةً لِذَلِكَ. اهـ. أَيْ: إِجْمَالًا لِذَلِكَ التَّفْصِيلِ، وَفَذْلَكَةُ الشَّيْءِ: جَمْعُهُ. مَأْخُوذٌ مِنْ فَذْلَكَ وَهُوَ مَصْنُوعٌ كَالْبَسْمَلَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِهِ نُورًا عَظِيمًا جَامِعًا لِلْأَنْوَارِ كُلِّهَا. اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ: " وَاجْعَلْنِي نُورًا " وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْكُلِّ. (وَزَادَ بَعْضُهُمْ) ، أَيْ: بَعْضُ الرُّوَاةِ بَعْدَمَا ذَكَرَ (" وَفِي لِسَانِي نُورًا ") : خُصَّ بِالذِّكْرِ لِيَخُصَّ بِالذِّكْرِ (وَذَكَرَ) أَيِ: الرَّاوِي. قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالْأَظْهَرُ: وَذَكَرَ، أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضُ. يَعْنِي فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (" وَعَصَبِي ") لِأَنَّ بِهِ قَوَامَ الْبَدَنِ، (" وَلَحْمِي ") لِأَنَّ بِهِ نُمُوَّهُ وَزِيَادَتَهُ، (" وَدَمِي ") لِأَنَّ بِهِ حَيَاتَهُ، (" وَشَعَرِي ") ; لِأَنَّ بِهِ جَمَالَهُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، (" وَبَشَرِي ") ، أَيْ: جِلْدِي ; لِأَنَّهُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ بَدَنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَفْظُهُ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ: وَفِي عَصَبِي نُورًا، وَفِي لَحْمِي نُورًا، وَفِي دَمِي نُورًا، وَفِي شَعَرِي نُورًا، وَفِي بَشَرِي نُورًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَفِي لِسَانِي نُورًا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحِصْنِ.

(- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا -) أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ (" «وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا وَأَعْظِمْ لِي نُورًا» ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيِ: اجْعَلْ نُورِي عَظِيمًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَسْنَدَهَا الْجَزَرِيُّ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ وَجَعَلَهَا مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ: وَفِي لِسَانِي نُورًا. (" وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: " «اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا» ") : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>