للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَذْهَبَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى صَرْفِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، كَالْمَجِيءِ، وَالصُّورَةِ، وَالشَّخْصِ، وَالرِّجْلِ، وَالْقَدَمِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالْغَضَبِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهِمُهُ ظَاهِرُهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ مَجَالَاتٍ قَطْعِيَّةِ الْبُطْلَانِ تَسْتَلْزِمُ أَشْيَاءَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَاضْطَرَّ ذَلِكَ جَمِيعَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ مُعْتَقِدِينَ اتِّصَافَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُئَوِّلَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ، وَفِيهِ تَأْوِيلٌ إِجْمَالِيٌّ أَوْ مَعَ تَأْوِيلِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لِذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الْمُجَسِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فِرَقِ الضَّلَالَةِ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى عُقُولِ الْعَامَّةِ، فَقَصَدُوا بِذَلِكَ رَدْعَهُمْ وَبُطْلَانَ قَوْلِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَذَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقَالُوا: لَوْ كُنَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ صَفَاءِ الْعَقَائِدِ وَعَدَمِ الْمُبْطِلِينَ فِي زَمَنِهِمْ لَمْ نَخُضْ فِي تَأْوِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ السَّلَفِ أَوَّلَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا، وَكَذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ بِقَصْدِ أَمْرِهِ، وَنَظِيرُهُ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: ٢٩] ، أَيْ: قَصَدَ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، بَلْ قَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْخَلَفِ: إِنَّ مُعْتَقِدَ الْجِهَةِ كَافِرٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ. وَقَدِ اتَّفَقَ سَائِرُ الْفِرَقِ عَلَى تَأْوِيلِ نَحْوِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤] ، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: ٧] الْآيَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥] وَ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: ١٦] ، وَ " «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» "، " «وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» " وَهَذَا الِاتِّفَاقُ يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ مَا اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) لَا الْجَلَالَةِ.

قُلْتُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (إِلَّا اللَّهُ) وَعْدٌ، وَأَوْقَفَهُ وَقْفًا لَازَمًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَزْمًا، فَفِي التَّحْقِيقِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَلِهَذَا اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمَ تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَلِيقُ بِاللَّفْظِ، وَيَكِلُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ بِهَا إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَلَذُّذٌ بَيْنَ الْمَشْرَبَيْنِ، وَاخْتَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوَسُّطًا آخَرَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الْمَجَازِ الْبَيِّنِ الشَّائِعِ، فَالْحَقُّ سُلُوكُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ أَوْ مِنَ الْمَجَازِ الْبَعِيدِ الشَّاذِّ فَالْحَقُّ تَرْكُهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَالِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ فِيهَا لَيْسَ بِالْخَطَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.

قُلْتُ: التَّوَقُّفُ فِيهَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنَّ التَّوَقُّفَ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِ السَّلَفِ، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِنُزُولِهِ: دُنُوُّ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدُ لُطْفِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، وَقَبُولُ مَعْذِرَتِهِمْ، كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُلُوكِ الْكُرَمَاءِ وَالسَّادَةِ الرُّحَمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِقُرْبِ قَوْمٍ مَلْهُوفِينَ مُحْتَاجِينَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَقَدْ رُوِيَ: «يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْأَنَفَةَ مِنَ الْأَرْذَالِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَقَهْرِ الْعُدَاةِ، وَالِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ إِلَى مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَمَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَبُولِ الْمَعْذِرَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُحْتَاجِ، وَاسْتِقْرَاضِ الْحَوَائِجِ، وَالْمُسَاهَلَةِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْإِغْضَاءِ عَمَّا يَبْدُو مِنَ الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا قِيلَ: هَذَا تَجَلٍّ صُورِيٌّ لَا نُزُولٌ حَقِيقِيٌّ، فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (" حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ ") : بِضَمِّ لَامِ ثُلُثٍ وَسُكُونِهِ (" الْآخِرُ ") : بِالرَّفْعِ صِفَةُ ثُلُثٍ.

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَشَابِهٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَيَنْتَقِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ إِلَى صِفَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ، قُلْتُ: التَّعْبِيرُ بِالِانْتِقَالِ لَا يَرْتَضِيهِ أَهْلُ الْكَمَالِ لِتَوَهُّمِ النَّقْصِ وَالزَّوَالِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الظُّهُورَ وَالتَّجَلِّيَ بِصِفَةِ الْجَمَالِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>