قَالَ فِي النِّهَايَةِ: تَخْصِيصُ الثُّلُثِ الْآخِرِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّهَجُّدِ، وَغَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ خَالِصَةً وَالرَّغْبَةُ وَافِرَةً، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ نُزُولُ الرَّحْمَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَالْأَلْطَافِ السُّبُحَانِيَّةِ، وَقُرْبُهُ مِنَ الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى الصِّفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ نُزُولُ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ، فَيَنْقُلُ حِكَايَةَ كَلَامِ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُنَافِي مَا وَرَدَ: حَتَّى يَمْضِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ» ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا هَكَذَا - كَذَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ - وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّزُولُ عِنْدَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ الْآخِرِ، وَاخْتُصَّ بِزِيَادَةِ الْفَضْلِ لِحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَلِاتِّفَاقِ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نُزُولُ تَجَلٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ أَزْمِنَةِ الْقَائِمِينَ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَمُجْمَلُهُ: أَنَّ مُطْلَقَ اللَّيْلِ مَحَلُّ التَّنَزُّلِ الْإِلَهِيِّ مِنْ مَقَامِ الْجَلَالِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْجَمَالِ، دَاعِيًا عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ الْكَمَالِ إِلَى مِنَصَّةِ الْوِصَالِ حَالَ غَفْلَةِ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ. (" يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ (أَنْ) فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَأُعْطِيَهُ، فَأَغْفِرَ لَهُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" مَنْ سَأَلَنِي فَأُعْطِيَهُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَبِسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ (" مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ") : قِيلَ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْوَقْتِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ أَنْفَعُ وَأَرْجَى وَبِالْقَبُولِ أَحْرَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ ") ، أَيْ: لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: عَنْ مَظْهَرَيْهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّجَلِّي الصُّورِيِّ لِتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنِ الْجَارِحَةِ وَالنُّزُولِ الْحِسِّيِّ. (" يَقُولُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَقُولُ، أَيْ بِذَاتِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ (" مَنْ يُقْرِضُ ") ، أَيْ: يُعْطِي الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ أَوِ الْمَالِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَأَخْذِ الْعِوَضِ، (" غَيْرَ عَدُومٍ ") ، أَيْ: رَبًّا غَنِيًّا غَيْرَ فَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنِ الْعَطَاءِ، (" وَلَا ظَلُومٍ ") : بِعَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ بِنَقْصٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ يَعْنِي: مَنْ يَعْمَلُ فِي الْعَاجِلَةِ رَجَاءَ الثَّوَابِ فِي الْآجِلَةِ لِغَنِيٍّ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ، وَعَادِلٍ لَا يَظْلِمُ الْمُقْرِضَ بِنَقْصِ مَا أَخَذَ، بَلْ يُضَاعِفُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا وَصَفَ ذَاتَهُ تَعَالَى بِنَفْيِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا الْمَانِعَانِ غَالِبًا عَنِ الْإِقْرَاضِ، فَالْمَعْنَى مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا يَجِدْ جَزَاءَهُ كَامِلًا عِنْدِي فِي الْعُقْبَى، (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْبَسْطِ وَالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَزَالُ يَقُولُ ذَلِكَ طَلَبًا لِإِقْبَالِ قُلُوبِ طَالِبِيهِ إِلَيْهِ، (" يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ") ، أَيْ: يَنْشَقُّ أَوْ يَطْلُعُ، وَيَظْهَرُ الصُّبُحُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ ذَلِكَ اللُّطْفِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute