يَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ يُعَدُ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ زَلَّةٌ صَدَرَ عَنْهُمْ تَوْبَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَالَ مَنْ يُصِرُّوا، أَيْ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ عَالِمَيْنِ بِهِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَوْ يَعْلَمُونَ جَزَاءَ الْإِصْرَارِ أَوْ ثَوَابَ الِاسْتِغْفَارِ، أَوْ صِفَةَ رَبِّهِمُ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي " ثَلَاثًا. " فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ، قِيلَ: فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَدْ يُطْلِقُ الْأَمْرَ لِلتَّلَطُّفِ ; وَإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرَاقِبُهُ وَتَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُبَاعِدُ وَيُقَصِّرُ فِي حَقِّكَ: افْعَلْ مَا شِئْتَ فَلَسْتُ أُعْرِضُ عَنْكَ، وَلَا أَتْرُكُ وِدَادَكَ، وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: إِنْ فَعَلَتْ أَضْعَافَ مَا كُنْتَ تَفْعَلُ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَ عَنْهُ غَفَرْتُ لَكَ فَإِنِّي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مَا دُمْتَ عَنْهَا مُسْتَغْفِرًا إِيَّاهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ إِذَا كَانَ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، كَمَا يَتَبَادَرُ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ فَتَأَمَّلْ، وَخَبَرُ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: ١٣٦] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
قَالَ مِيرَكُ: مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَسْمَاءِ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ رَجِلًا إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ، وَإِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ.
قُلْتُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُلْتَزِمًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَحْفُوظُهُ بِالْمَبْنَى دُونَ الْمَرْوِيِّ بِالْمَعْنَى، بِخِلَافِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَلِذَا قَلَّتْ رِوَايَتُهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ تَبَعًا لَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَهَذَا وَجْهٌ لِقَوْلِهِ: وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ إِلَخْ.
قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَمُعَاذٍ، وَوَاثِلَةٍ، وَأَبِي الْيُسْرِ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، انْتَهَى.
أَقُولُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةَ بِمِثْلِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ لَمْ يَقِفْ عَلَى مَوْضِعِ إِيرَادِهِ فِي سُنَنِهِ، فَتَرَكَ ذِكْرَهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كَمَا قَالَهُ الْمَقْدِسِيُّ فِي السِّلَاحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ) : وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ إِلَّا أَنَّهُ (لَمْ يَذْكُرِ الْآيَةَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute