٦٧ - وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ:. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
٦٧ - (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : مَا نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَمَنْ فِي مِنْكُمْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: مَا أَحَدٌّ مِنْكُمْ (إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مَعْلُومٌ مِنَ التَّوْكِيلِ بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ (قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ) أَيْ: صَاحِبُهُ مِنْهُمْ لِيَأْمُرَهُ بِالشَّرِّ، وَاسْمُهُ الْوَسْوَاسِ، وَهُوَ وَلَدٌ يُولَدُ لِإِبْلِيسَ حِينَ يُولَدُ لِبَنِي آدَمَ وَلَدٌ، وَقَوْلُهُ: (وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: لِيَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَاسْمُهُ الْمُلْهِمُ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، لَكِنْ ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالصَّغَانِيِّ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ مُسْلِمٍ، كَذَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ: قَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ اهـ. فَصَاحِبُ الْمِشْكَاةِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْجَامِعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ظُهُورُ خِسَّةِ الْعَاصِي، وَشَرَفِ الطَّائِعِ (قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: لَكَ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ؟ وَالْقِيَاسُ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِصِيغَةِ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ، وَكَذَا فِي الْجَوَابِ يَعْنِي (قَالَ: (وَإِيَّايَ) أَيْ: وَلِي ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: وَأَنَا فَأَقَامَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ مَقَامَ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ، وَهُوَ سَائِغٌ شَائِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، وَإِيَّاكَ نَعْنِي فِي هَذَا الْخِطَابِ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِيَّايَ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي مِنْكُمْ عَامٌّ لَا يَخُصُّ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ بَلْ كُلُّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ دَاخِلٌ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا مِنْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ، وَقِيلَ: عَطْفٌ عَلَى مَحَلٍّ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ الْمُقَدَّرِ تَقْدِيرُهُ قَالُوا: قَدْ وُكِّلَ بِهِ وَإِيَّاكَ، قَالَ: وُكِّلَ بِهِ وَإِيَّايَ (وَلَكِنَّ اللَّهَ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَيُخَفَّفُ (أَعَانَنِي عَلَيْهِ) أَيْ: بِالْعِصْمَةِ، أَوْ بِالْخُصُوصِيَّةِ (فَأَسْلَمَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ، أَوْ فَتْحِهَا فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَسْلَمُ بِالضَّمِّ أَيْ: أَسْلَمُ أَنَا مِنْهُ، وَالشَّيْطَانُ لَا يُسْلِمُ، وَفِي جَامِعِ الدَّارِمِيِّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَسْلَمَ بِالْفَتْحِ أَيِ: اسْتَسْلَمَ، وَذَلَّ، وَانْقَادَ، وَالْخَطَّابِيُّ ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالْقَاضِي عِيَاضُ إِلَى الثَّانِي، وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَخُصَّ نَبِيَّهُ هَذِهِ الْكَرَامَةَ أَعْنِي إِسْلَامَ قَرِينِهِ، وَبِمَا فَوْقَهَا. قِيلَ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ) : قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَقِيلَ أَسْلَمَ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَأَنَا أَسْلَمُ مِنْكُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجْرِي بَعْضَ الزَّلَّاتِ فِي بَعْضِ السَّاعَاتِ بِوَسْوَسَةٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ فِي أَعَمِّ الْأَوْقَاتِ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُ الْوَسْوَسَةِ مِنَ النَّفْسِ دُونَ الشَّيْطَانِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْقَرِينَ مِنَ الْجِنِّ رُبَّمَا يَدْعُوهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَقَصْدُهُ فِي ذَلِكَ الشَّرَّ بِأَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْمَفْضُولِ فَيَمْنَعَهُ عَنِ الْفَاضِلِ، أَوْ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْخَيْرِ لِيَجُرَّهُ إِلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ لَا يَفِي خَيْرُهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ عُجْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلِذَا قِيلَ: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَاسْتِحْقَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عُجْبًا وَاسْتِكْبَارًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِبْعَادَ سُفْيَانَ لِإِسْلَامِهِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ عِفْرِيتًا، لَا لِكَوْنِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْلِيسَ لِمَا فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ: أَنَّ هَامَّةَ بْنَ إِبْلِيسَ جَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ أَنَّهُ حَضَرَ قَتْلَ هَابِيلَ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِنُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ نَقَلَ السَّلَامَ مِنْ عِيسَى فَرَدَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَطَلَبَ أَنْ يُعَلِمَّهُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلَّمَهُ الْوَاقِعَةَ، وَالْمُرْسَلَاتَ، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: ١] ، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: ١] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] ، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute