قُلْتُ: لَوْ كَانَ تَوْقِيفًا لَظَهَرَ وَنُقِلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَفَحُّصِ مُرَادِهِ بِالنَّاسِ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهِ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَبْلَ حُدُوثِ الْخِلَافِ اهـ. لِأَنَّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَلَكَةٍ فِي الْفِقْهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ لِمَسَافَةِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَدْنَى أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» " فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ تُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأُجِيب: بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِضَعْفِ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، فَبَقِيَ قَصْرُ الْأَقَلِّ بِلَا دَلِيلٍ اهـ.
وَلْيَكُنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ، وَحَرَّرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ "، فَعَمَّ بِالرُّخْصَةِ وَهِيَ مَسْحُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ الْجِنْسَ، أَيْ: جِنْسَ الْمُسَافِرِينَ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمُسَافِرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ عُمُومِ الرُّخْصَةِ الْجِنْسُ، حَتَّى إِنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مُسَافِرٍ مِنْ مَسْحِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عُمُومِ التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ مُسَافِرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مُسَافِرٍ يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَثَبَتَ مُسَافِرٌ لَا يُمْكِنُهُ الْمَسْحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّ مُسَافِرٍ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً بِيَقِينٍ، فَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِيَقِينٍ مَا هُوَ سَفَرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ اهـ.
وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَرَدُّ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى ابْنِ الْهُمَامِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا مَا أَخَذُوا بِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: " «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» "، فِي هَذَا الْبَابِ لِمُعَارَضَتِهِ لِخَبَرِهِمَا أَيْضًا: لَا تُسَافِرُ يَوْمَيْنِ، بَلْ لِمُسْلِمٍ يَوْمًا بَلْ صَحَّ بَرِيدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى سَفَرًا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: يُقْصُرُ فِي قَصِيرِهِ كَأَنْ خَرَجَ لِبُسْتَانِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي الْقَصِيرِ إِذَا كَانَ فِي الْخَوْفِ، لَكِنْ عَلَّقَ فِي الْأُمِّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَصَرَ بِذِي قَرَد، لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ تَحْتَمِلُ أَنَّ مَقْصِدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ أَبْعَد، وَعَرَضَ لَهُ رُجُوعٌ مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute