النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. (فَاخْتَلَفُوا) ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابِ (فِيهِ) ، أَيْ فِي تَعْيِينِهِ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولِهِ لِلْعِبَادَةِ وَضَلُّوا عَنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ بِحَمْدِهِ (فَهَدَانَا اللَّه لَهُ) ، أَيْ: لِهَذَا الْيَوْمِ وَقَبُوِلِهِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبْقِنَا الْمَعْنَوِيِّ كَمَا أَنَّ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ: بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا إِشْعَارًا إِلَى سَبْقِهِمُ الْحِسِّيِّ وَإِيمَاءً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: ٢١٣] ، وَهَذَا كُلُّهُ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا، أَيْ فَرَضَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا يَوْمًا وَيُعَظِّمُوا فِيهِ خَالِقَهُمْ بِالطَّاعَةِ، لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَخْرِجُوهُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَيُعَيِّنُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ أَنْ يَتْبَعَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ صَوَابًا كَانَ أَوْ خَطَأً كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَوْمُ السَّبْتِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ فَرَاغٍ وَقَطْعِ عَمَلٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقَطِعَ النَّاسُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيَتَفَرَّغُوا لِعِبَادَةِ مَوْلَاهُمْ، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى: أَنَّ الْمُرَادَ يَوْمُ الْأَحَدِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ بَدْءِ الْخَلْقِ الْمُوجِبِ لِلشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، فَهَدَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ، وَوَفَّقَهُمْ لِلْإِصَابَةِ حَتَّى عَيَّنُوا الْجُمُعَةَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] . وَكَانَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ لِفَضْلِهِ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ أَوْجَدَ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَفِي الْجُمُعَةِ أَوْجَدَ نَفْسَ الْإِنْسَانِ، وَالشُّكْرُ عَلَى نِعْمَةِ الْوُجُودِ أَهَمُّ وَأَحْرَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ لَنَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ وَفَّقَنَا لِلْإِصَابَةِ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: جُمِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: إِنَّ لِلْيَهُودِ يَوْمًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُصَلِّي وَنَشْكُرُ فِيهِ، فَجَعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ، وَذَكَّرَهُمْ فَسَمَّوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩] اهـ.
وَالْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا - وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُطْلَقًا - لَكِنْ مَعَ هَذَا لَهُ شَاهِدٌ حَسَنٌ، بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى الْيَهُودِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ فَأَبَوْا وَقَالُوا: يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَجَعَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ مَا قَالَ شَارِحٌ: إِنَّا اجْتَهَدْنَا فَأَصَبْنَاهُ وَهُمُ اجْتَهَدُوا فَأَخْطَأُوهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّ مَعْنَاهُ: فَهَدَانَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ تَوَلَّى تَعْيِينَهُ لَنَا، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى اجْتِهَادِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ إِلَيْنَا لَوُفِّقْنَا لِإِصَابَتِهِ بِبِرْكَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلنُّقُولِ الصَّرِيحَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلسِّيَاقِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُبْقِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَزِيدَ مَزِيَّةٍ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُسْتَثْنَوْنَ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشُّمُنِّيُّ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: ٩] (وَالنَّاسُ) ، أَيْ: أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ كُنِّيَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ (لَنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِـ (تَبَعٌ) قُدِّمَ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَوْ مُتَعَلِّقُهُ مَحْذُوفٌ، وَاللَّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ مُشِيرَةٌ إِلَى النَّفْعِ (فِيهِ) ، أَيْ: فِي اخْتِيَارِ هَذَا الْيَوْمِ لِلْعِبَادَةِ (تَبَعٌ) : فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا هُدُوا لِمَا يَعْقُبُهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَبْدَأَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَأَوَّلَ أَيَّامِهِ كَانَ الْمُتَعَبِّدُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَتْبُوعًا، وَالْمُتَعَبِّدُ فِي الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ تَابِعًا، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ بِتَوَالِيهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ الْأُسْبُوعِ، لَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute