قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: بَكَّرَ: تَصَدَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، يَتَأَوَّلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: " «بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ ; فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا» "، وَتَابَعَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَأَرَى نَقْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ; لِمُطَابَقَتِهِ أُصُولَ اللُّغَةِ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ تَنْسِيقُ الْكَلَامِ ; فَإِنَّهُ حَثَّ عَلَى التَّبْكِيرِ، ثُمَّ الِابْتِكَارِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْدُو إِلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَمِعُ الْخُطْبَةَ ثَانِيًا. اهـ كَلَامُ التُّورْبَشْتِيُّ.
قُلْتُ: دَعْوَى شَهَادَةِ تَنْسِيقِ الْكَلَامِ لِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ مِنْهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ; فَإِنَّهُ حَثَّ عَلَى التَّبْكِيرِ (" وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ") وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى مُبَاكَرَةِ الصَّدَقَةِ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ النَّسَقِ، وَقَوْلُ التُّورْبَشْتِيِّ: لِمُطَابَقَتِهِ أُصُولَ اللُّغَةِ، أَفَادَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِمَوَادِّ اللُّغَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَادَّةَ بَكَّرَ لَمْ تَجِئْ بِمَعْنَى تَصَدَّقَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اللَّفْظِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْوِيَةٌ لِأَصْلِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَطَلٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ بَاكِرًا فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلِكُتُبِ اللُّغَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ بَكَرَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ وَفِيهِ بُكُورًا، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَأَبْكَرَ وَبَاكَرَهُ: أَتَاهُ بُكْرَةً اهـ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِإِحْدَى حُرُوفِ الْجَرِّ الْمَذْكُورَةِ، نَعَمْ قِيلَ بَكَّرَ مُبَالَغَةُ بَكَرَ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْبُكُورِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا مَا قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا فَهُوَ اسْتِرْوَاحٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ "، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى، جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَرْكَبْ أَفَادَ دَفْعَ تَوَهُّمِ حَمْلِ الْمَشْيِ عَلَى الْمُضِيِّ وَلَوْ رَاكِبًا، وَنَفْيَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالْمَشْيِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوَّلًا، ثُمَّ التَّصْدِيقِ ثَانِيًا، ثُمَّ بِالْمَشْيِ وَالدُّنُوِّ مِنَ الْإِمَامِ. تَمَّ كَلَامِهِ.
أَقُولُ: هَذَا تَزْيِيفٌ ضَعِيفٌ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ بِنَسَقِ الْكَلَامِ تَتَابُعُهُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللِّحَاقِ، وَتَنَاسُبُهُ مِنْ مَعْنَى الْوِفَاقِ فَمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَغَسَّلَ وَاغْتَسَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنَ التَّأْكِيدِ الْحَقِيقِيِّ، أَوِ التَّغَايُرِ الِاعْتِبَارِيِّ، وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (" وَدَنَا ") أَيْ: قَرُبَ (" مِنَ الْإِمَامِ ") أَيِ: الْخَطِيبِ (" وَاسْتَمَعَ ") أَيْ: مَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ (" وَلَمْ يَلْغُ ") : بِضَمِّ الْغَيْنِ أَيْ: بِالْكَلَامِ مَعَ الْأَنَامِ، وَبِالْفِعْلِ الْعَبَثُ مِنْ أَفْعَالِ الْعَوَامِّ، (" كَانَ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ ") : بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتُضَمُّ (" عَمَلُ سَنَةٍ ") أَيْ: ثَوَابُ أَعْمَالِهَا (" أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا ") : بَدَلٌ مِنْ: " عَمَلُ سَنَةٍ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ) . وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَمْ نَسْمَعْ مِنَ الشَّرِيعَةِ حَدِيثًا صَحِيحًا مُشْتَمِلًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الثَّوَابِ أَيْ: فَيَتَأَكَّدَ الْعَمَلُ لِيُنَالَ الْأَمَلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute