ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ: لَا يَمْنَعُكَ أَحَدٌ مِنِّي. قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ. (قَالَ: " اللَّهُ ") أَيْ: هُوَ الَّذِي سَلَّطَكَ عَلَيَّ. (" يَمْنَعُنِي مِنْكَ ") : إِذْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ " فَبَسَطَ اعْتِمَادًا عَلَى اللَّهِ، وَاعْتِضَادًا بِحِفْظِهِ وَكَلَاءَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧] . قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْطِ شَجَاعَتِهِ، وَصَبْرِهِ عَلَى الْأَذَى، وَحِلْمِهِ عَلَى الْجُهَّالِ. (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَتَهَدَّدَهُ) أَيْ: هَدَّدَهُ وَخَوَّفَهُ. (أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَمَدَ السَّيْفَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ وَتُشَدَّدُ، أَيْ: أَدْخَلَهُ فِي غِلَافِهِ. (وَعَلَّقَهُ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ. ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ إِذْ هُمْ بِهِ أَصَابَهُ دَاءٌ بِصُلْبِهِ، فَبَدَرَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ أَسْلَمَ وَاهْتَدَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ وَإِنَّمَا عَاهَدَ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا لَمْ يُعَاقِبْهُ تَأَلُّفًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
(قَالَ) : أَيْ: جَابِرٌ. (فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ) أَيْ: أُذِّنَ وَأُقِيمَ لِلظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ. (فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَتَأَخَّرُوا أَيْ: عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّوْا فِيهِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، وَسَلَّمُوا عَنْهُمَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا قَاصِدِينَ جِهَةَ الْعَدُوِّ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّأَخُّرِ عَنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّلَامِ عَنْهَا، وَمَعَ هَذَا لَا دَلَالَةَ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: " ثُمَّ بَعْدَ سَلَامِهِمْ تَأَخَّرُوا ". فَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
(وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى) أَيْ: بَعْدَ مَجِيئِهِمْ إِلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ: لَمْ يَجِدْ فِي مَحَالِّهِمْ إِلَّا نِسْوَةً، فَأَخَذَهُنَّ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَتَأْيِيدٌ لِقَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: لَقِيَ جَمْعًا مِنْهُمْ فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ أَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى صَلَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ اهـ.
وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ رَأَيْتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلَيِ ابْنِ سَعْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُحْمَلُ عَلَى الْآخَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، مَعَ أَنَّ الْمَوْضِعَ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ اهـ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَرَّتَيْنِ. مَرَّةً كَمَا رَوَاهُ سَهْلٌ، وَمَرَّةً كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا عَلَى الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ ; بِدَلِيلِ الِاسْتِظْلَالِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى تَعَدُّدِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا سَيَجِيءُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ زَيْنُ الْعَرَبَ: قِيلَ: جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ آيَةِ الْقَصْرِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ أَقَامُوا فِيهِ. قَالَ: وَأَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ؟ ! إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَذَلِكَ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الْقَصْرِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ قَصَرُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتِمٌّ، لَكِنْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ عِنْدَهُ مَنِ ائْتَمَّ بِمُتِمٍّ يُتِمُّ، وَإِنْ كَانَا مُسَافِرَيْنِ، وَلْيُحَقَّقْ هَذَا الْمَوْضِعُ، وَلَمْ أَجِدْ لِلشُّرَّاحِ كَلَامًا فِي هَذَا الْمَقَامِ اهـ.
أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ مَا قِيلَ: أَنَّهُ قَبْلَ آيَةِ الْقَصْرِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ الَّذِي لَا وَجْهَ لَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ حَدِيثٍ مَحْمُولًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ لَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ، إِذْ صَلَاةُ الْخَوْفِ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الْقِيَاسِ، بَلْ مُخْتَصَّةٌ مُنْحَصِرَةٌ بِمَا وَرَدَ عَنْ سَيِّدِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَكْعَتَيْنِ أَيْ: مَعَ الْإِمَامِ، كَمَا أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمُرَادَ بِرَكْعَةٍ أَيْ: مَعَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَعْنَاهُ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا، وَبِالثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّانِيَةِ مُتَنَفِّلًا وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ اهـ.
وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قُلْتُ: مَعَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قِيلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ، وَيُتْرَكَ ظَاهِرُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute