قُلْتُ: ثَبَتَ الْعَرْشُ أَوَّلًا فَانْقُشْ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَالِ كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمًا، وَالْمُقِيمُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْمِصْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَوْمَ قَضَوْا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَضَوْا، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِي الْأَحَادِيثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ بِالْقَصْرِ، فَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ شَافِعِيٌّ مُنْصِفٌ غَايَةَ الْإِنْصَافِ، وَمُجْتَهِدٌ مُجْتَمِعُ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ، حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِيهِ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ أَدْرَى بِمَا فِيهِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى كَلَامِهِ شَيْءٌ مِمَّا نَظَرَ زَيْنُ الْعَرَبِ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْمِصْرِ اتِّفَاقِيٌّ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي خَارِجِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا.
وَفِي الْأَزْهَارِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ شُرُوطٌ: أَحُدُّهَا: أَنْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ. قُلْتُ: أَوْ مُقِيمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْهُجُومِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: هَذَا شَرْطٌ لِمُطْلَقِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، لَا لِخُصُوصِ صَلَاتِهِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُمْ فِرْقَتَيْنِ. قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا عَامٌّ غَيْرُ مَخْصُوصٍ، وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَ: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الرَّوْضَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي عُيُونِ التَّارِيخِ: فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ اهـ.
قَالَ السَّيِّدُ: هَذَانِ الْقَوْلَانِ يُخَالِفَانِ نَصَّ الْبُخَارِيِّ ; فَإِنَّهُ قَالَ: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ هِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ ; لِأَنَّ أَبَا مُوسَى قَدِمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فِي السُّنَّةِ السَّابِعَةِ، وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ ذَاتَ الرِّقَاعِ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَعَدُّدِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ مَرَّةً فِي الْخَامِسَةِ، وَمَرَّةً فِي السَّابِعَةِ أَوِ الثَّامِنَةِ اهـ.
وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ أَنَّهَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ; لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ وُقُوعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَنْدَقِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّمَا شُرِعَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي الصَّحِيحِ، فَلِذَا لَمْ يُصَلِّهَا إِذْ ذَاكَ. وَقَوْلُهُ فِي الْكَافِي: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ.
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي طَرِيقِ حَدِيثِ الْخَنْدَقِ لِلنَّسَائِيِّ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ. فَذَكَرَهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: ٢٣٩] . قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي صِفَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ لِاخْتِلَافِ أَيَّامِهَا. فَقَدْ صَلَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعُسْفَانَ، وَبَطْنِ نَخْلَةَ، وَبِذَاتِ الرِّقَاعِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ بِنَاءً عَلَى مَا رَآهُ مِنَ الْأَحْوَطِ، فَالْأَحْوَطِ فِي الْحِرَاسَةِ، وَالتَّوَقِّي مِنَ الْعَدُوِّ، وَأَخَذَ بِكُلِّ رِوَايَةٍ مِنْهَا جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
(قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ. (فَكَانَتْ) أَيْ: وَقْعَةُ تِلْكَ الصَّلَاةِ. (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ) أَيْ: مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَبِنَفْسِهِ رَكْعَتَيْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute