مُتَوَجِّهًا. (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أَيْ: إِلَى خَالِقِهِمَا وَمُبْدِعِهِمَا. (عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) : حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ فِي وَجَّهْتُ وَجْهِي، أَيْ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي فِي الْأُصُولِ وَبَعْضِ الْفُرُوعِ. (حَنِيفًا) : حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الْمِلَّةِ الْقَوِيمَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا سِوَى الْمَوْلَى ; وَلِذَا «لَمَّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا» . (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : لَا شِرْكًا جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا.
قَالَ السَّيِّدُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ؟ قِيلَ: كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ: مُوسَى، وَقِيلَ: عِيسَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ لِنَسْخِ الْكُلِّ بِشَرِيعَةِ عِيسَى، وَشَرْعُهُ كَانَ قَدْ حُرِّفَ وَبُدِّلَ. قَالَ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: ٥٢] أَيْ: شَرَائِعَهُ وَأَحْكَامَهُ، وَفِيهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ مَبْعُوثًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ; فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا لِأَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، وَلَمْ يَعْبُدْ صَنَمًا قَطُّ إِجْمَاعًا، وَكَانَتْ عِبَادَتُهُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَنَا.
قَالَ ابْنُ بُرْهَانٍ: وَلَعَلَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَ خَفَاءَ ذَلِكَ وَكِتْمَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَظْهَرُ شَيْءٌ يُشْبِهُ الْمُعْجِزَاتِ يَعْنِي الَّتِي تُسَمَّى إِرْهَاصًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا قَبْلَ أَرْبَعِينَ غَيْرَ مُرْسَلٍ، وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ سِوَى شَرِيعَتِهِ إِجْمَاعًا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَلِيًّا، ثُمَّ بَعْدَهَا صَارَ نَبِيًّا، ثُمَّ صَارَ رَسُولًا. (إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي) أَيْ: سَائِرُ عِبَادَاتِي أَوْ تَقَرُّبِي بِالذَّبْحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالذَّبْحِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: ٢] . (وَمَحْيَايَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ. (ط وَمَمَاتِي) : بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَمَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي، وَمَا أَمُوتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ اهـ. أَوْ حَيَاتِي وَمَوْتِي. (لِلَّهِ) أَيْ: خَالِصَةٌ لِوَجْهِهِ. (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: سَيِّدُهُمْ وَخَالِقُهُمْ، وَمُرَبِّيهِمْ وَمُصْلِحُهُمْ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ. (وَبِذَلِكَ) أَيْ: بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعُبُودِيَّةِ. (أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، وَحُكْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ. (اللَّهُمَّ) أَيْ: يَا اللَّهُ. (مِنْكَ) أَيْ: هَذِهِ الْأُضْحِيَّةُ عَطِيَّةٌ وَمِنْحَةٌ، وَاصِلَةٌ إِلَيَّ مِنْكَ. (وَلَكَ) أَيْ: مَذْبُوحَةٌ وَخَالِصَةٌ لَكَ. وَفِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ إِلَيْكَ، أَيْ: وَاصِلَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَيْكَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْأَمْثَالِ: مِمَّا لَكُمْ يُهْدَى لَكُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْكَبْشَ مِنْكَ، وَجَعَلْتُهُ لَكَ، وَأَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. (عَنْ مُحَمَّدٍ) أَيْ: صَادِرَةٌ عَنْهُ. (وَأُمَّتِهِ) أَيِ: الْعَاجِزِينَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فِي سُنَّةِ أُضْحِيَّتِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِأَهْلِ زَمَانِهِ، وَالتَّعْمِيمَ الْمُنَاسِبَ لِشُمُولِ إِحْسَانِهِ، وَالْأَوَّلُ يَحْتَمِلُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ أَوِ الْأَخِيرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ الْمُشَارَكَةُ إِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى الثَّوَابِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ ذَلِكَ الْجَنَابِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ، وَالثَّانِي عَنْ أُمَّتِهِ الضَّعِيفَةِ. (بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ) أَيْ: بِيَدِهِ، وَأَمَرَ بِذَبْحِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَأَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ. (وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، ذَبَحَ بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا) أَيِ: الْكَبْشُ، أَوْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَبْشَيْنِ. (عَنِّي) أَيِ: اجْعَلْهُ أُضْحِيَّةً عَنِّي. (وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي) : وَفِيهِ رَائِحَةٌ مِنَ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ مَحْسُوبًا عَمَّنْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ يُضَحِّ، إِمَّا لِجَهَالَةٍ، أَوْ نِسْيَانٍ وَغَفْلَةٍ، أَوْ فَقْدِ أُضْحِيَّةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ رَحْمَةٌ عَلَى أُمَّتِهِ الْمَرْحُومَةِ عَلَى عَادَتِهِ الْمَعْلُومَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute