الْبُومِ، وَحِلْمُ الْجَمَلِ، وَتَوَاضَعُ الْهِرَّةِ، وَوَفَاءُ الْكَلْبِ، وَبُكُورُ الْغُرَابِ، وَهِمَّةُ الْبَازِي، وَنَحْوُهَا مِنْ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ. (نُطْفَةً) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُجْمَعُ (ثُمَّ يَكُونُ) أَيْ: خَلْقُ أَحَدِكُمْ (عَلَقَةً) أَيْ: دَمًا غَلِيظًا جَامِدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: ثُمَّ عَقِبَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ النُّطْفَةُ عَلَقَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يَكُونُ بِمَعْنَى يَصِيرُ، وَالضَّمِيرُ إِلَى مَا جُمِعَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً، وَقِيلَ: يَصِيرُ خَلْقُهُ عَلَقَةً لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَعَلَّقَ بِالرَّحِمِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ فِي أَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَدِّرَ، وَيَبْقَى، أَوْ يَمْكُثَ (مِثْلَ ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: مِثْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ يَعْنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا (ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً) أَيْ: قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ (مِثْلَ ذَلِكَ) : وَيَظْهَرُ التَّصْوِيرُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ. قَالَ: الْمُظْهِرُ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ فِي لَمْحَةٍ فَوَائِدُ وَعِبَرٌ. مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ دَفْعَةً لَشَقَّ عَلَى الْأُمِّ لِعَدَمِ اعْتِيَادِهَا، وَرُبَّمَا تَظُنُّ عِلَّةً، فَجُعِلَ أَوَّلًا نُطْفَةً لِتَعْتَادَهَا مُدَّةً، وَهَكَذَا إِلَى الْوِلَادَةِ. وَمِنْهَا: إِظْهَارُ قُدْرَتِهِ، وَنِعْمَتِهِ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَشْكُرُوهُ حَيْثُ قَلَبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَطْوَارِ إِلَى كَوْنِهِمْ إِنْسَانًا حَسَنَ الصُّورَةِ مُتَحَلِّيًا بِالْعَقْلِ، وَالشَّهَامَةِ. وَمِنْهَا: إِرْشَادُ النَّاسِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَشْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُهَيَّأَةٍ لِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى حَشْرِهِ، وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. قُلْتُ: وَمِنْهَا: بَلْ أَظْهَرُهَا تَعْلِيمُ الْعِبَادِ فِي تَدْرِيجِ الْأُمُورِ، وَعَدَمِ تَعْجِيلِهِمْ فِيهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَقُوَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ دُفْعَةً حَيْثُ خَلَقَهُ مُدَرَّجًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ أَوْلَى بِهِ التَّأَنِّي فِي فِعْلِهِ كَمَا قَالُوا مِثْلَ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: ٥٤] فَحَصَلَتِ الْمُطَابَقَةُ وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ، وَالدَّلَالَاتِ الْأَنْفُسِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: ٥٣] . وَمِنْهَا تَنْبِيهُهُمْ، وَتَفْهِيمُهُمْ أَصْلَهُمْ وَفَرْعَهُمْ فَلَا يَغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ، وَأَعْضَائِهِمْ، وَحَوَاسِّهِمْ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهَا كُلَّهَا عَطَايَا، وَهَدَايَا، بَلْ عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَةِ مَوْجُودَةٌ عِنْدَهُمْ لِيَنْظُرُوا فِي مَبْدَئِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: ٥] وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» (ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى خَلْقِ أَحَدِكُمْ، أَوْ إِلَى أَحَدِكُمْ يَعْنِي فِي الطَّوْرِ الرَّابِعِ حِينَ مَا يَتَكَامَلُ بَيَانُهُ، وَيَتَشَكَّلُ أَعْضَاؤُهُ (مَلَكًا) : وَفِي الْأَرْبَعِينَ: ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِرْسَالِ أَمْرُهُ بِهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ مُوَكَّلٌ بِالرَّحِمِ حِينَ كَانَ نُطْفَةً، أَوْ ذَاكَ مَلَكٌ آخَرُ غَيْرُ مَلَكِ الْحِفْظِ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِرِوَايَةِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ خِلَافُ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي الْمَشَارِقِ، «أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا، وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا، وَعِظَامَهَا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ» ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ التَّصْوِيرَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَهُوَ مُنَافٍ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ لِتَصَرُّفِ الْمَلَكِ أَوْقَاتًا. أَحَدُهَا: حِينَ يَكُونُ نُطْفَةً، ثُمَّ يَنْقَلِبُ عَلَقَةً، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمِ الْمَلَكِ بِأَنَّهُ وَلَدٌ، وَذَلِكَ عَقِيبَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَحِينَئِذٍ يَبْعَثُ إِلَيْهِ رَبُّهُ يَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَخِلْقَتَهُ، وَصُورَتَهُ، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِتَصْوِيرِهِ، وَخَلْقِ أَعْضَائِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَالْمُرَادُ بِتَصْوِيرِهَا بَعْدَهُ أَنَّهُ يَكْتُبُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَفْعَلُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى غَيْرُ مَوْجُودٍ عَادَةً، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا قُدِّرَتْ ذَكَرًا تَتَصَوَّرُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بِحَيْثُ يُشَاهَدُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى السَّوْأَةَ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْبَنَاتِ، أَوِ الْغَالِبِ. (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) أَيْ: بِكِتَابَتِهَا، وَكُلُّ قَضِيَّةٍ تُسَمَّى كَلِمَةٌ قَوْلًا كَانَ، أَوْ فِعْلًا (فَيَكْتُبُ عَمَلَهُ) : مِنَ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ (وَأَجَلَهُ) : مُدَّةَ حَيَاتِهِ، أَوِ انْتِهَاءَ عُمُرِهِ (وَرِزْقَهُ) : يَعْنِي أَنَّهُ قَلِيلٌ أَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute