للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كَثِيرٌ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَهُ، فَيُعَيَّنُ لَهُ، وَيُنْقَشُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَعْمَارِ، وَالْأَرْزَاقِ حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَسَبَقَتْ كَلِمَتُهُ، فَمَنْ وَجَدَهُ مُسْتَعِدًّا لِقَبُولِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِهِ، وَرَآهُ أَهْلًا لِلْخَيْرِ، وَأَسْبَابَ الصَّلَاحِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ أَثْبَتَهُ فِي عِدَادِ السُّعَدَاءِ، وَمَنْ وَجَدَهُ مُتَجَافِيًا قَاسِيَ الْقَلْبِ مُتَأَبِّيًا عَنِ الْحَقِّ أَثْبَتَهُ فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ، وَكَتَبَ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْهُ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي، هَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَالِهِ مَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَتَبَ لَهُ أَوَائِلَ أَمْرِهِ، وَأَوَاخِرَهُ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَسَبَ مَا يَتِمُّ بِهِ عَمَلُهُ، فَإِنَّ مِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِيمُهُ، وَهُوَ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَتْبِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِظْهَارُهُ لِلْمَلَكِ، وَإِلَّا فَقَضَاؤُهُ سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ مُجَاهِدُ: يَكْتُبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي وَرَقَةٍ، وَتُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا النَّاسُ. قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: ١٣] قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالطَّائِرِ مَا قَضَى عَلَيْهِ أَنَّهُ عَامِلُهُ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ، وَخَصَّ الْعُنُقَ لِأَنَّهُ مَوْضِعَ الْقِلَادَةِ وَالْأَطْوَاقِ. قُلْتُ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يَفْعَلَهَا، وَلَا يَقْدِرَ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهَا، وَقِيلَ: يُؤْمَرُ بِكِتَابَةِ الْأَحْكَامِ الْمُقَدَّرَةِ لَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَعُمُّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا، وَهَذَا مَا يُخَصُّ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ؛ إِذْ لِكُلٍّ كِتَابَةٌ سَابِقَةٌ، وَهِيَ مَا فِي اللَّوْحِ، وَلَاحِقَةٌ تُكْتَبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمُتَوَسِّطَةٌ أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ، وَفِي أَصْلِ الْأَرْبَعِينَ يُكْتَبُ رِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ، وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ أَرْبَعُ إِذِ الْمُضَافُ مُقَدَّرٌ فِيهِ، وَيُرْوَى يَكْتُبُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. (وَشَقِيٌّ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَكْتُبُ هُوَ شَقِيٌّ (أَوْ سَعِيدٌ) : قِيلَ: كَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَيَكْتُبُ سَعَادَتَهُ وَشَقَاوَتَهُ، فَعَدَلَ إِمَّا حِكَايَةً لِصُورَةِ مَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ أَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ شَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، فَعَدَلَ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ إِلَيْهِمَا، وَالتَّفْصِيلُ وَهُوَ قَوْلَهُ: فَوَالَّذِي إِلَخْ وَارِدٌ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعَادَةُ مُعَاوَنَةُ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ عَلَى نَيْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتُضَادُّهَا الشَّقَاوَةُ، وَهِيَ إِمَّا قَلْبِيَّةٌ، أَوْ بَدَنِيَّةٌ، أَوْ مَا حَوْلَ الْبَدَنِ فَالْقَلْبِيَّةُ هِي الْمَعَارِفُ، وَالْحِكَمُ وَالْكَمَالَاتُ الْعِلْمِيَّةُ، وَالْعَمَلِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ، وَالْخُلُقِيَّةُ، وَالْبَدَنِيَّةُ، الصِّحَّةُ وَالْقُوَّةُ، وَاللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ، وَمَا حَوْلَ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْأَسْبَابِ، وَقَدَّمَ الشَّقَاوَةَ لِيُعْلَمَ أَنَّ الشَّرَّ كَالْخَيْرِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَقْدِيرُهُ رَدًّا عَلَى الثَّنَوِيَّةِ الْمُثْبِتِينَ شَرِيكًا فَاعِلًا لِلشَّرِّ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْحِكْمَةَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فَقَالُوا: مُدَبِّرُ الْعَالَمِ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَخُصَّ هَذَا بِأَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى، وَذَلِكَ بِأَصْنَافِ الشُّرُورِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الرَّبُّ بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: ٢٣] وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

كَمْ مِنْ أَدِيبٍ فَطِنٍ عَالِمٍ ... مُسْتَكْمِلِ الْعَقْلِ مُقِلٍّ عَدِيمِ

وَكَمْ جَهُولٍ مُكْثِرٍ مَالَهُ ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ

وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ صِفَتَيْ لُطْفٍ وَقَهْرٍ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ سِيَّمَا مُلْكُ الْمُلُوكِ كَذَلِكَ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَّا بِوُجُودِ الْآخَرِ، كَمَا لَا تَتَبَيَّنُ اللَّذَّةُ إِلَّا بِالْأَلَمِ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، وَلَا بُدَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَظْهَرٍ، فَالسُّعَدَاءُ، وَأَعْمَالُهُمْ مَظَاهِرُ اللُّطْفِ، وَفَائِدَةُ بِعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْكُتُبِ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَا أَنْتِ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: ٤٥] كَمَا أَنَّ فَائِدَةَ نُورِ الشَّمْسِ لِأَهْلِ الْبَصَرِ، وَالْأَشْقِيَاءُ وَأَفْعَالُهُمْ مَظَاهِرُ الْقَهْرِ، وَفَائِدَةُ الْبِعْثَةِ لَهُمْ إِلْزَامُ الْحُجَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَعْيٌ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ (ثُمَّ يُنْفَخُ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْلُومٌ (فِيهِ الرُّوحُ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْبَعْثُ لَا قَبْلَهُ، وَعَكْسُ ذَلِكَ الْوَاقِعُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ الْمُرَادُ بِهِ تَرْتِيبُ الْأَخْبَارِ فَقَطْ عَلَى أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>