رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ بِلَفْظِ: فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ إِلَخْ. وَنُسِبَ إِلَى الشَّيْخَيْنِ فَتَأَمَّلْ، فَلَعَلَّهُمَا لَهُمَا رِوَايَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ) : الْقَسَمُ لِإِفَادَةِ التَّحْقِيقِ، وَتَأْكِيدِ التَّصْدِيقِ أَيْ: إِذَا كَانَ الشَّقَاوَةُ، وَالسَّعَادَةُ مَكْتُوبَةً فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلِيَعْلَمَ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ (إِنَّ أَحَدَكُمْ) : وَلَفَظُ الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّ الرَّجُلَ أَيِ: الشَّخْصَ (لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ) : فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالرَّفْعِ لَا لِأَنَّ مَا النَّافِيَةُ كَافَّةٌ عَنِ الْعَمَلِ، بَلْ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى حِكَايَةِ حَالِ الرَّجُلِ لَا الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ. كَذَا قَالَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: حَتَّى هِيَ النَّاصِبَةُ، وَمَا نَافِيَةٌ. وَلَفْظَةُ: يَكُونُ مَنْصُوبَةٌ بِحَتَّى، وَمَا غَيْرُ مَانِعَةٍ لَهَا مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَوْجَهُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ، وَيَكُونُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ (بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا) أَيْ: بَيْنَ الرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ (إِلَّا ذِرَاعٌ) : تَمْثِيلٌ لِغَايَةِ قُرْبِهَا (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) : ضُمِّنَ مَعْنَى يَغْلِبُ، وَلِذَا عُدِّيَ بِعَلَى، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِ كِتَابُ الشَّقَاوَةِ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَيِ: الْمُقَدَّرُ، أَوِ التَّقْدِيرُ أَيِ: التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ السَّبْقِ بِلَا مُهْلَةٍ. ( «فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا» ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ الْعَمَلِ الْمَخْلُوقِيِّ فَلَا يَكُونُ جَبْرًا مَحْضًا، وَلَا قَدَرًا بَحْتًا، وَهَذَا مِمَّا سَنَحَ لِي، وَقِيلَ: لِأَنَّ بَذْرَ الشَّقَاوَةِ، وَالسَّعَادَةِ قَدِ اخْتَفَى فِي الْأَطْوَارِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يَبْرُزُ إِلَّا إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَايَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، أَوِ الطُّغْيَانِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ) أَيِ: الْآخَرَ (لِيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) : مِنَ الْكُفْرِ، وَالْمَعَاصِي (حَتَّى مَا يَكُونُ) : بِالْوَجْهَيْنِ (بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) : قِيلَ: فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ، وَأَنَّ مَصِيرَهَا إِلَى مَا جَرَى بِهِ الْمَقَادِيرُ فِي الْبِدَايَةِ (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) : بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ، وَيَتُوبَ (فَيَدْخُلُهَا) : أَقُولُ: فِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْتَرَّ بِأَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ، وَيَجْتَنِبَ الْعُجْبَ، وَالتَّكَبُّرَ، وَالْأَخْلَاقَ السَّيِّئَةَ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَمُسَّلِمًا بِالرِّضَا تَحْتَ حُكْمِ الْقَضَاءِ، وَكَذَا إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ فَلَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَعَالَى الطَّيِّبَةِ، فَإِنَّهَا إِذَا بَدَتْ عَيْنُ الْعِنَايَةِ أَلْحَقَتِ الْآخِرَةَ بِالسَّابِقَةِ، وَكَذَا الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَجْزِ فِي الْأَعْمَالِ فَلَا يُحْكَمُ لِأَحَدٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالدَّرَجَاتِ، وَإِنْ عَمِلَ مَا عَمِلَ مِنَ الطَّاعَاتِ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ، وَلَا يَجْزِمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ جَمِيعُ السَّيِّئَاتِ، وَالْمَظَالِمِ، وَالتَّبِعَاتِ، فَإِنَّ الْعِبَرَ بِخَوَاتِيمَ الْحَالَاتِ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَالشَّهَادَاتِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ، وَالسَّعَادَةِ، وَالشَّقَاوَةِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِيجَادِهِ، إِذْ لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ الْمُتَعَالِي عَنِ الشَّرِيكِ ذَاتًا وَصِفَةً، وَفِعْلًا، يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ لَا عِلَّةَ لِفِعْلِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي تَحْسِينِ الْأَفْعَالِ وَتَقْبِيحِهَا، بَلْ يَحْسُنُ صُدُورُهَا كُلُّهَا عَنْهُ، وَالِاسْتِقْلَالُ لِلْعَبْدِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِيَّةِ كَمَا يُمْدَحُ الشَّيْءُ بِحُسْنِهِ وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنْ يُوجِدَ الْأَسْبَابَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُوجِدُ الْمُسَبِّبَاتُ عَقِيبَهَا، فَكُلٌّ مِنْهُمَا صَادِرٌ عَنْهُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْبِعْثَةُ، وَالتَّكْلِيفُ فَلِأَنَّ اللَّهَ يَجِبُ اتِّصَافَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَكَلَّفَ الْعِبَادَ بِهِمَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ إِظْهَارًا لِمُقْتَضَى سُلْطَتِهِ كَمَا قَالَ: كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأَرَدْتُ أَنْ أُعْرَفَ فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لِأَنْ أُعْرَفَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute