للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (ازْهَدْ) حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ: ( «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» ) .

قَالَ الْخَطَّابِيُّ شَارِحُهُ: لَمْ يُصَنَّفْ فِي عِلْمِ الدِّينِ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ وَضْعًا، وَأَكْثَرُ فِقْهًا مِنَ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: مَا ذَكَرْتُ فِيهِ حَدِيثًا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَنْ عِنْدَهُ الْقُرْآنُ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ لَمْ يَحْتَجْ مَعَهُمَا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ.

وَقَالَ النَّاجِيُّ: كِتَابُ اللَّهِ أَصْلُ الْإِسْلَامِ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ عِيدُ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ بِاكْتِفَاءِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَتَبِعَهُ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِلْمُشْتَغِلِ بِالْفِقْهِ وَلِغَيْرِهِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ ; فَإِنَّ مُعْظَمَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُحْتَجُّ بِهَا فِيهِ مَعَ سُهُولَةِ تَنَاوُلِهِ. وَكَانَ لَهُ كُمٌّ وَاسِعٌ، وَكُمٌّ ضَيِّقٌ فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الْوَاسِعُ فَلِلْكُتُبِ، وَأَمَّا الضَّيِّقُ فَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ النُّسُكِ، وَالْعَفَافِ، وَالصَّلَاحِ، وَالْوَرَعِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَا رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ضَعْفَهُ هُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، أَوْ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَا سَكَتَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَهُ سِيَّمَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ السَّكَنِ الصِّحَّةَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَوَافَقَهُمَا الْحَاكِمُ.

(وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيِّ) : بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْمَدِّ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَبِالْقَصْرِ كَمَا فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ نِسْبَةً إِلَى بَلَدٍ بِخُرَاسَانَ قُرَيْبَ مُرْوَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ مِنْ كُوَرِ نَيْسَابُورَ، أَوْ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ. أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ، سَمِعَ مِنْ: إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ أَشْعَثَ، وَمَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ وَقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَعَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَآخَرِينَ بِبِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرُونَ: كَالطَّبَرَانِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ السُّنِّيِّ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فَسُئِلَ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَفَضَّلَ عَلَيْهِ عَلِيًّا ; فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحُمِلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَمَاتَ بِهَا، وَقِيلَ: إِلَى مَكَّةَ، وَدُفِنَ بِهَا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةَ. وَجَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فَقَالَ: مَاتَ ضَرْبًا بِالْأَرْجُلِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ حِينَ أَجَابَهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ لِيُرَجِّحُوهُ بِهَا عَلَى عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ: أَلَا يَرْضَى مُعَاوِيَةُ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يَفْضُلَ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَعْرِفُهُ إِلَّا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ، وَمَا زَالُوا يَضْرِبُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ مَقْتُولًا شَهِيدًا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالرَّمْلَةِ، وَكَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: إِنَّهُ مَاتَ بِالرَّمْلَةِ بِمَدِينَةِ فِلَسْطِينَ، وَدُفِنَ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَسِنُّهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً فِيمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ، وَجَزَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ مَدْفُونٌ بِهَا. وَنَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ الذَّهَبِيِّ، وَوَالِدِهِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ السُّبْكِيِّ أَنَّ النَّسَائِيَّ أَحْفَظُ مِنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ سُنَنَهُ أَقَلُّ السُّنَنِ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثًا ضَعِيفًا، بَلْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إِنَّهُ أَشْرَفُ الْمُصَنَّفَاتِ كُلِّهَا، وَمَا وُضِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ السَّكَنِ، وَأَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، وَالْخَطِيبُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كُلُّ مَا فِيهِ صَحِيحٌ، لَكِنْ فِيهِ تَسَاهُلٌ صَرِيحٌ. وَشَذَّ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ فَفَضَّلَهُ عَلَى كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَلَعَلَّهُ لِبَعْضِ الْحَيْثِيَّاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ كَمَالِ الصِّحَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: صَنَّفَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كِتَابًا يُقَالُ لَهُ: السُّنَنُ الْكَبِيرُ لِلنَّسَائِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ، لَمْ يُكْتَبْ مِثْلُهُ فِي جَمْعِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَبَيَانِ مَخْرَجِهِ، وَبَعْدَهُ اخْتَصَرَهُ، وَسَمَّاهُ بِالْمُجْتَنَى بِالنُّونِ ; وَسَبَبُ اخْتِصَارِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَرَاءِ زَمَانِهِ سَأَلَهُ إِنَّ جَمِيعَ أَحَادِيثِ كِتَابِكَ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا، فَأَمَرَهُ الْأَمِيرُ بِتَجْرِيدِ الصِّحَاحِ، وَكِتَابَةِ صَحِيحٍ مُجَرَّدٍ ; فَانْتَخَبَ مِنْهُ الْمُجْتَنَى، وَكُلُّ حَدِيثٍ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ أَسْقَطَهُ مِنْهُ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُحَدِّثُونَ بِقَوْلِهِمْ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فَمُرَادُهُمْ هَذَا الْمُخْتَصَرُ الْمُسَمَّى بِالْمُجْتَنَى لَا الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، وَكَذَا إِذَا قَالُوا: الْكُتُبُ الْخَمْسَةُ، أَوْ أُصُولُ الْخَمْسَةِ فَهِيَ: الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُجْتَنَى النَّسَائِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>