فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَقْسَامِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنْ أَلْفَاظٌ مُشَاكِلَةٌ لَهَا فِي وَضْعِ الِاسْمِ، فَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ عَلَى وَجْهٍ يُنَاسِبُ نَسَقَ الْكَلَامَ. قِيلَ: الْمُتَشَابِهُ قِسْمَانِ. الْأَوَّلُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كَالنَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: ١١٦] وَالْمَجِيءِ فِي (جَاءَ رَبُّكَ) وَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَالثَّانِي يَقْبَلُهُ ذَكَرَ شَيْخُ الشُّيُوخِ السَّهْرَوَرْدِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالِاسْتِوَاءِ، وَالزَّوَالِ، وَالْيَدِ، وَالْقَدَمِ، وَالتَّعَجُّبِ، وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ فَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِتَشْبِيهٍ، وَتَعْطِيلٍ. قِيلَ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعَوَّلُ، وَعَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شَرَطَ فِي التَّأَوِيلِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابنُ حَجَرٍ: أَكْثَرُ السَّلَفِ لِعَدَمِ ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي أَزْمِنَتِهِمْ يُفَوِّضُونَ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَنْزِيهِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ ظَاهِرِهَا الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ ذَاتِهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلَفِ يُؤَوِّلُونَهَا بِحَمْلِهَا عَلَى مَحَالٍّ تَلِيقُ بِذَلِكَ الْجَلَالِ الْأَقْدَسِ، وَالْكَمَالِ الْأَنْفَسِ لِاضْطِرَارِهِمْ إِلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْبِدَعِ فِي أَزْمِنَتِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ بَقِيَ النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَمْ نُؤْمَرْ بِالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ كَثُرَتِ الْبِدَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ أَمْوَاجِ الْفِتَنِ تَلْتَطِمُ، وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهمْ فِي الْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: ٧] فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى الْجَلَالَةِ، وَالْأَقَلُّونَ عَلَى الْوَقْفِ عَلَى (الْعِلْمِ) ، وَمِنْ أَجَلِّهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ حَمْلًا لِلنَّاسِ عَلَى سُؤَالِهِ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ رَفْعُ الْخِلَافِ بِأَنَّ الْمُتَشَابِهَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَا لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا قَرِيبًا فَهَذَا مَحْمَلُ الْوَقْفِ الْأَوَّلِ، وَمَا يَقْبَلُهُ فَهَذَا مَحْمَلُ الثَّانِي، وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَبُولَ التَّأْوِيلِ إِنْ قَرُبَ مِنَ اللَّفْظِ، وَاحْتَمَلَهُ وَضْعًا، وَرَدَّهُ إِنْ بَعُدَ عَنْهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّلَفَ، وَالْخَلَفَ مُؤَوِّلُونَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ السَّلَفِ إِجْمَالِيٌّ لِتَفْوِيضِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأْوِيلَ الْخَلَفِ تَفْصِيلِيٌّ لِاضْطِرَارِهِمْ إِلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْمُبْتَدِعِينَ. (بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَإِلَّا فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأُصْبُعُ مُثَلَّثُ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ (مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ) : إِطْلَاقُ الْأُصْبُعِ عَلَيْهِ تَعَالَى مَجَازٌ أَيْ: تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ فِي قُدْرَتِهِ يَسِيرٌ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى مُتَصَرِّفٌ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَغَيْرِهَا كَيْفَ شَاءَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُهُ مَا أَرَادَهُ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ فِي قَبْضَتِي أَيْ: كَفِّي، لَا يُرَادُ أَنَّهُ فِي كَفِّهِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِي، وَفُلَانٌ بَيْنَ أُصْبُعِي أُقَلِّبُهُ كَيْفَ شِئْتُ أَيْ: إِنَّهُ هَيِّنٌ عَلَيَّ قَهْرُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شِئْتُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأُصْبُعَيْنِ صِفَتَا اللَّهِ، وَهُمَا صِفَةُ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَبِصِفَةِ الْجَلَالِ يُلْهِمُهَا فُجُورَهَا، وَبِصِفَةِ الْإِكْرَامِ يُلْهِمُهَا تَقْوَاهَا. أَيْ: يُقَلِّبُهَا تَارَةً مِنْ فُجُورِهَا إِلَى تَقْوَاهَا، وَتَارَةً مِنْ تَقْوَاهَا إِلَى فُجُورِهَا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ بَيْنَ أَثَرَيْنِ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ، وَقَهْرِهِ أَيْ: قَادِرٌ أَنْ يُقَلِّبُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: نَسَبَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ تَعَالَى إِشْعَارًا بِأَنَّهُ تَعَالَى تَوَلَّى بِذَاتِهِ أَمْرَ قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، وَخَصَّ الرَّحْمَنَ بِالذِّكْرِ إِيذَانًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّوَلِّيَ مَحْضُ رَحْمَتِهِ كَيْلَا يَطَّلِعَ أَحَدٌ غَيْرُهُ عَلَى سَرَائِرِهِمْ، وَلَا يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقَوْلُهُ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ: بِالْوَصْفِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ أَحَدَكُمْ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ اللَّهُ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: ٢٨] قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْقَلْبِ الْوَاحِدِ أَسْهَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ، إِذْ لَا صُعُوبَةَ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ تَعَالَى، بَلْ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْعِبَادِ إِلَى مَا عَرَفُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (يُصَرِّفُهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يُقَلِّبُ الْقَلْبَ الْوَاحِدَ، أَوْ جِنْسَ الْقَلْبِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ أَيِ: الْقُلُوبَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ (كَيْفَ يَشَاءُ) : حَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ هَيِّنًا سَهْلًا لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ، أَوْ مَصْدَرٌ أَيْ: تَقْلِيبًا سَرِيعًا سَهْلًا، وَفِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ حَيْثُ يَشَاءُ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ. (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ (اللَّهُمَّ) : أَصْلُهُ يَا اللَّهُ فَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَعُوِّضَ عَنْهُ الْمِيمُ، وَلِذَا لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقِيلَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute