عَنْهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الْقَوْمُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ الَّذِينَ هُمْ غَاشِيَتُهُ، أَيْ: يَغْشَوْنَهُ لِلْخِدْمَةِ، أَوِ الزِّيَارَةِ قَالَ مِيرَكُ: كَذَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الثَّوْبَ الَّذِي يُلْقَى عَلَى الْمَرِيضِ أَوِ الْمَيِّتِ، وَلِذَا سَأَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَضَى. (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: رَحْمَةٌ عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرُوا لِمَا صَدَرَ لَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. (فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَوْا) وَفِي نِسْبَةِ الْبُكَاءِ إِلَى الرُّؤْيَةِ الْمِلْكُ: إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الدَّمْعَةُ. (فَقَالَ) تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ. (أَلَا تَسْمَعُونَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَوَمَا سَمِعْتُمْ أَوْ مَا عَلِمْتُمُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَسْمَعُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ. (إِنَّ اللَّهَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ بَيَانٌ لِلْمَقُولِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. (لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ) بَلْ يُثَابُ بِهِمَا إِذَا كَانَا عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ. (وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) أَيْ: إِذَا قَالَ: مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ، بِأَنْ قَالَ شَرًّا مِنَ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ. (وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) يَعْنِي الْمُرَادَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ هُنَا اللِّسَانُ الَّذِي يُضَرُّ بِهِ الْإِنْسَانُ. (أَوْ يُرْحَمُ) أَيْ: بِهَذَا إِنْ قَالَ خَيْرًا، بِأَنِ اسْتَرْجَعَ مَثَلًا، أَوِ اسْتَغْفَرَ أَوْ تَرَحَّمَ، وَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ مِنْ جَوَازِ الْبُكَاءِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ، نَقَلَ جَمَاعَةٌ فِيهِ الْإِجْمَالَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: فَإِذَا وَجَبَتْ لَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، فِي الْأَذْكَارِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْبُكَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ إِنَّهُ يُفِيدُ تَحْرِيمَهُ اهـ. وَيَرُدُّهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ: أَنَّهُ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَبْرَ ابْنِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ» ، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّهُ بَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُهُنَّ عَلَى بُكَاءٍ خَاصٍّ لَهُنَّ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ الْقَيْدِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُكَاءَ بِالدَّمْعِ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالْأُمُورِ الْجِبِلِّيَّةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ. ( «وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» ) أَيْ: مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ. (عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِبُكَاءِ الْحَيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ مَا نِيحَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ يُبْكَ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنَسَبَتْهُمَا إِلَى النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمَا، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] قَالَتْ: وَإِنَّمَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَهُودِيَّةٍ: إِنَّهَا تُعَذَّبُ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا،» تَعْنِي تُعَذَّبُ بِكُفْرِهَا فِي حَالِ بُكَاءِ أَهْلِهَا، لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، وَيُنَاحَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَنُفِّذَتْ وَصِيتُهُ، فَهَذَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَنَوْحِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَكَوْا عَلَيْهِ وَنَاحُوا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ فَلَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِذَا أَوْصَى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْحَالُ بِبُكَائِهِمْ وَصُرَاخِهِمْ وَجَزَعِهِمْ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: هَذَا فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ: كَأَنْ يُعَذَّبُ فِي زَمَانِ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِمَا فِي رِوَايَةٍ: «يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» ، وَفِي أُخْرَى: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَا نَاصِرَاهُ، وَاكَاسِيَاهُ، جَبَذَا الْمَيِّتَ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْتَ عَضُدَاهَا؟ ! أَنْتَ نَاصِرُهَا؟ ! أَنْتَ كَاسِيهَا؟ ! اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ إِذَا كَانَ أَوْصَى أَوْ كَانَ بِفِعْلِهِمْ يَرْضَى ; وَلِهَذَا أَوْجَبَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَصِيَّةَ بِتَرْكِ الْبُكَاءِ، وَالنَّوْحِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ وَجْهُ قُوَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَوَجْهُ ضَعْفِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا قَالَتْهُ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: ١٥] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَنِيَاحَةٍ وَلَا بِمُجَرَّدِ الدَّمْعَةِ، وَسَيَأْتِي أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute