لِنَشْهَدَهَا أَيْضًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمْرُ سَهْلًا بِأَنْ يُقَالَ: جُمْلَةُ وَحَضَرَهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُمَا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَبَعْدَ حُضُورِهَا إِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا إِشْعَارًا بِكَمَالِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمَا. (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ. (مُوَاجِهُهُ) أَيْ: مُقَابِلَ ابْنِ عُثْمَانَ. (أَلَا تَنْهَى) أَيْ: أَهْلَكَ. (عَنِ الْبُكَاءِ) أَيْ: بِالصِّيَاحِ وَالنِّيَاحِ. (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: مُعْتَرِضًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ عَائِشَةَ خَالَفَتْهُ كَأَبِيهِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَهُوَ لَا يُكَلِّفُ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الثَّانِيَ خَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ إِجْمَاعًا، وَخِلَافُ عَائِشَةَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا، وَأَبُوهُ مُوَافِقٌ لَهُ إِمَّا فِي الْكُلِّ أَوْ فِي الْبَعْضِ لِقَوْلِهِ: (قَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ) أَيِ: الْعُمُومَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِصَوْتٍ أَوْ نُدْبَةٍ عِنْدَ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ، أَوْ يَرْوِي أَيْ: بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ بِبَعْضَ بُكَاءِ أَهْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي. (ثُمَّ حَدَّثَ) أَيْ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (فَقَالَ: صَدَرْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ سَائِرًا. (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: عُمَرُ. (بِرَكْبٍ) أَيْ: جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّكْبَانِ. (تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ: نَوْعُ شَجَرٍ. (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ لِي. (اذْهَبْ فَانْظُرْ) أَيْ: تَحَقَّقْ. (مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟) أَيْ: كَبِيرُهُمْ أَوْ أَمِيرُهُمْ. (فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ) أَيْ: وَمَنْ مَعَهُ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: عُمَرَ بِهِ أَوْ بِالْخَبَرِ. (فَقَالَ: ادْعُهُ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا أَيِ: اطْلُبْ صُهَيْبًا. (فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ) : أَيْ: لِصُهَيْبٍ. (ارْتَحِلْ) أَيْ: مِنْ مَكَانِكَ. (فَالْحَقْ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيِ: اتْبَعْ. (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: أَمْرَهُ أَوِ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِلْمُصَاحِبَةِ الْخُصُوصِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ السَّالِفَةِ بَيْنَ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ ; فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: (فَلَمَّا أَنْ) زَائِدَةٌ. (أُصِيبَ عُمَرُ) أَيْ: جُرِحَ فِي الْمِحْرَابِ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِهِ مَعَ الْأَصْحَابِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْمَدِينَةَ بِقَلِيلٍ بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَجُوسِيِّ لَهُ بِخِنْجَرِهِ، ضَرَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الصُّبُحَ، فَسَقَطَ وَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، وَضَرَبَ بِهِ كَثِيرِينَ وَهُوَ يَشُقُّ الصُّفُوفَ حَتَّى أُلْقِيَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ خَشْيَةً مِنْ خِنْجَرِهِ الْمَسْلُولِ بِيَدِهِ، لِكُلِّ مَنْ وَالَاهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ اللَّعِينُ بِذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَمَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الصَّلَاةَ لِلنَّاسِ وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى عُمَرَ يَتَعَرَّفُونَ الْخَبَرَ. (دَخَلَ) أَيْ: عَلَيْهِ. (صُهَيْبٌ يَبْكِي) حَالٌ. (يَقُولُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ يَبْكِي. (وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ) لَيْسَ فِي هَذَا نَوْحٌ نَظِيرَ مَا صَدَرَ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ قَوْلِهَا وَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّوْحِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِرَفْعِ صَوْتٍ. (فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَتُبْكِي عَلَيَّ) أَيْ: بِالصَّوْتِ وَالنُّدْبَةِ. (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَيِّتَ) أَيْ: مُطْلَقًا أَوِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ (لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَقُولُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنْوَاعِ رِوَايَاتِهِ ; لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِيرَادِ عُمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَعْضِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النُّدْبَةِ، وَطَرِيقَةُ النَّوْحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ حُكْمًا أَوْ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ قَابِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا يَكُونُ عَنْ وَصِيَّتِهِ، أَوْ مِنْ نَحْوِ يَهُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَهُمُ الَّذِينَ أَوْصَاهُمْ دُونَ مَا لَمْ يُوصِيهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَوْصَاهُمْ كُلَّهُمْ، فَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ مَقَالُ اللَّفْظِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ الْمَفْهُومَ مُخَالِفٌ لِمَا فَهِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْعُمُومِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْمَيِّتِ أَعَمُّ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُحْتَضِرُ، وَبِالْعَذَابِ تَشْوِيشُ خَاطِرِهِ مِمَّنْ حَوْلَهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ فِي مُرَاقَبَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute