الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِذِ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ تَهْوِينًا أَوْ تَلْقِينًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ: الْكَلَامَ أَوِ الْحَدِيثَ (لِعَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوٌ يَحْتَاجُ إِلَى عَفْوٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى. (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَغْرَبْتُ مِنْ عُمَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَجَعَلَتْ قَوْلَهَا: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ تَمْهِيدًا وَدَفْعًا لِمَا يُوجِبُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْخَطَأِ. (لَا) أَيْ: لَيْسَ كَذَلِكَ. (وَاللَّهِ، مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَيِّتَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتُفْتَحُ. (لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: مُطْلَقًا، وَلَا مُقَيَّدًا بِالْبَعْضِ، وَهَذَا النَّفْيُ الْمُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى ظَنِّهَا أَوْ زَعْمِهَا، أَوْ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهَا، وَإِلَّا فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مَنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ؟ ! مَعَ أَنَّهُ بِعُمُومِهِ لَا يُنَافِي مَا قَالَتْ بِخُصُوصِهِ. (وَلَكِنْ) أَيِ: الَّذِي حَدَّثَ بِهِ جُمْلَةَ " إِنَّ اللَّهَ. . . " إِلَخْ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَكِنْ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ) فِيهِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هُنَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَتْ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهَا أَوَّلًا. (حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) بِسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَافِيكُمُ الْقُرْآنُ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَهَبْتُ مِنَ الْخَبَرِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] الْجُمْلَةُ بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَعْضٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوِزْرُ وَالْوَقْرُ أَخَوَانِ، وَزَرَ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلَهُ، وَالْوَازِرَةُ صِفَةُ النَّفْسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَحْمِلُ إِلَّا وِزْرَهَا، لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ نَفْسٍ كَمَا تَأْخُذُ جَبَّارَةُ الدُّنْيَا الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْجَارَّ بِالْجَرِّ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ بِظَاهِرِهَا يُنَافِي مَا ذَكَرَتْ مِنْ: أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ: عِنْدَ قَوْلِ عَائِشَةَ، أَوْ عِنْدَ نَقْلِهِ عَنْهَا مُؤَيِّدًا لَهَا، وَمِصْدَاقًا لِكَلَامِهَا. (وَاللَّهُ) بِالرَّفْعِ مَعَ الْوَاوِ، وَهُوَ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ بِلَفْظِ {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: ٤٣] قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: أَنَّ الْعَبْرَةَ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ، وَلَا تَسَبُّبَ لَهُ فِيهَا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؟ ! فَضْلًا عَنِ الْمَيِّتِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَحَاصِلُهُ جَوَازُ عُمُومِ الْبُكَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، مَعَ مُنَاقَضَتِهِ لِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: ٤٩] مِنْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةَ الْقَهْقَهَةُ، عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: قَدَّرَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْجَمِيلِ مِنَ الْبُكَاءِ، فَلَا يُعَذِّبُ بِمَا أَذِنَ فِيهِ اهـ. وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْبَحْثِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَضُهُ تَقْرِيرٌ لِنَفْيِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْأَهْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُكَاءَ الْإِنْسَانِ وَضَحِكَهُ، وَحُزْنَهُ وَسُرُورَهُ مِنَ اللَّهِ يُظْهِرُهَا فِيهِ، فَلَا أَثَرَ لَهَا فِي ذَلِكَ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَلْقًا، وَمِنَ الْعَبْدِ كَسْبًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْبَشَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّحِكَ وَالتَّبَسُّمَ فِي وَجْهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالسُّرُورُ تَارَةً يَكُونَانِ مِنَ الْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ يُثَابُ الشَّخْصُ بِهِمَا، وَتَارَةً مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّنِيَّةِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِمَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفِ، وَزُبْدَتُهُ فِي الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ قِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ أُثِرَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؟ ! قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ لَا يَرْضَى بِالْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ، أَيْ: كَافِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا الْآيَةُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] إِنَّهَا فِي شَأْنِكُمْ، وَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ، أَقُولُ: لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِهَا عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي الْمَعْنَى لَا لِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ فِي الْمَبْنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَعَلَ الْخِلَافَ بَيْنَ عَائِشَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَفْظِيًّا، مَعَ أَنَّ لَهُمْ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةَ الْمَبَانِي وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ جَمْعُهَا فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْفَارُوقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَالصِّدِّيقَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ هُوَ مُوَلِّيهَا اهـ.
وَهَذَا بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النُّبُوَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا) أَيْ: شَيْءٌ مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute