(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
١٨١٥ - (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، أَقُولُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَهُوَ فَرْضِيٌّ عَمَلِيٌّ لَا اعْتِقَادِيٌّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى الِافْتِرَاضِ فَإِنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُتَعَيَّنٌ، مَا لَمْ يُقَيِّمْ صَارِفٌ عَنْهُ، وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ غَيْرُ مُجَرَّدِ التَّقْدِيرِ، خُصُوصًا فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَمَعْنَى لَفْظِ فَرَضَ هُوَ مَعْنَى لَفْظِ أَمَرَ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ بِظَنِّيٍّ إِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ الِافْتِرَاضَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهٍ يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ، فَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، الَّذِي نَقُولُ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّ الْفَرْضَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ فِي عُرْفِنَا، فَأَطْلَقْنَاهُ عَلَى أَحَدِ جُزْأَيْهِ. اهـ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا، وَلَمَّا رَأَى الْحَنَفِيَّةُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ، وَالثَّانِيَ مَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ قَالُوا إِنَّ الْفَرْضَ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاجِبِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا قَطْعِيٌّ لِمَا عَلِمْتُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَالْفَرْضُ فِيهِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ، حَتَّى عَلَى قَوَاعِدِهِمْ، فَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِهِمُ الْفَرْضَ هُنَا بِالْوَاجِبِ. اهـ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي لُزُومِ هَذَا الْفِعْلِ، وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَرْضِ أَوِ الْوَاجِبِ بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ فِي التَّعْبِيرِ بِالْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وُجُوبُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ الْمُنْذِرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فَمَنْقُوضٌ بِأَنَّ جَمْعًا حَكُوا الْخِلَافَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبِعَهُمُ ابْنُ اللَّبَّانِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَبَقَهُ إِلَيْهِ الْأَصَمُّ، هَذَا وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا أَهْلَ الْبَادِيَةِ، فَثَبَتَ بِهَذَا النِّزَاعِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَدِيثُ ظَنِّيٌّ وَمَدْلُولُهُ غَيْرُ قَطْعِيٍّ حَالَ كَوْنِهَا (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَأَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَمَنْ تَبِعَهُ كَالشَّافِعِيِّ، وَتَضْعِيفُ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى حُدُوثِ الضَّعْفِ بَعْدَ تَعَلُّقِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ، ثَمَّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَلَيْسَ ذِكْرُهُمَا لِحَصْرِ الْإِعْطَاءِ مِنْهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْ لِلْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ إِذَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ، وَقُوتِ عِيَالِهِ، لِيَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ قَدْرُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، أَقُولُ: وَهَذَا تَقْدِيرُ نِصَابٍ كَمَا لَا يَخْفَى، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَيَّدُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ تُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِالْغِنَى، وَصَرَفُوهُ إِلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ، وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا، مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» "، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا، وَتَعْلِيقَاتُهُ الْمَجْزُومَةُ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ رَوَاهُ مَرَّةً بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُ الظَّهْرِ مُقْحِمٌ كَظَهْرِ الْقَلْبِ، وَظَهْرُ الْغَيْبِ فِي الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَمَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صَغِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ "، شَكَّ حَمَّادٌ، عَنْ كُلِّ اثْنَيْنِ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، حُرٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ، غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَى» فَقَدْ ضَعَّفَهُ، وَلَوْ صَحَّ لَا يُقَاوِمُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصِّحَّةِ، مَعَ أَنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ كَثْرَةً مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ فِيهِ الْفَقِيرُ، فَكَانَتْ تِلْكَ رِوَايَةً شَاذَّةً فَلَا تُقْبَلُ خُصُوصًا مَعَ نُبُوِّ قَوَاعِدِ الصَّدَقَاتِ، وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهَا (عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ عَلَى السَّيِّدِ كَالْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَعَلَّقَ التَّمْلِيكُ إِذْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا الْمَالِكُ، وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الْحَرِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرُّكْنُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهَا عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهُ السَّيِّدُ، لَيْسَ بِذَاكَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ، أَنْ يَصْرِفَ الْمُكَلَّفُ نَفْسَ مَنْفَعَتِهِ لِمَالِكِهِ، وَهُوَ الرَّبُّ - تَعَالَى - ابْتِلَاءً لَهُ لِتَظْهَرَ طَاعَتُهُ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَلِذَا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ إِلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا فُرِضَ كَوْنُ الْمُكَلَّفِ لَا يَلْزَمُهُ شَرْعًا صَرْفُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلُ الْإِعْطَاءِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ شَخْصًا آخَرَ لَزِمَ انْتِفَاءُ الِابْتِلَاءِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّكْلِيفِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَثُبُوتُ الْفَائِدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْآخَرِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الَّذِي لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُكَلِّفَ ابْتِدَاءً السَّيِّدَ بِسَبَبِ عَبْدٍ مَلَّكَهُ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَوَجَبَ لِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ لُزُومُ انْتِفَاءِ مَقْصُودِ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ لَفْظِ " عَلَى " فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ، وَعَبْدٍ عَلَى مَعْنَى عَنْ كَقَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute