للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

كِتَابُ الصَّوْمِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

١٩٥٦ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ

وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

كِتَابُ الصَّوْمِ

هُوَ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: ٢٦] أَيْ إِمْسَاكًا عَنِ الْكَلَامِ، وَشَرْعًا: إِمْسَاكٌ عَنِ الْجُوعِ وَعَنْ إِدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ، كَذَا عَرَّفَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، شَرَعَهُ - سُبْحَانَهُ - لِفَوَائِدَ، أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَاشِئٌ عَنِ الْآخَرِ؛ سُكُونُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَكَسْرُ شَهْوَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ، مِنَ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا جَاعَتِ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَالنَّاشِئُ عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ عَنِ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ، وَبَاقِيهِمَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي عُمُومِ السَّاعَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ. وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَيَنَالُ بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ، وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْحَافِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعَدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ تَنْزِعُ الثَّوْبَ: أَوْ مَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي، الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ، كَمَا يَتَحَمَّلُونَ اهـ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ عِنْدَ كُلِّ أَكْلَةٍ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِحَقِّ الْجَائِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا كَانَ يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَةِ الْقَحْطِ مَعَ كَثْرَةِ الْمَأْكُولِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، لِئَلَّا يَنْسَى أَهْلَ الْجُوعِ وَالْفَاقَةِ، وَلِيَتَشَبَّهُ بِهِمْ فِي الْخَاصَّةِ وَالْحَاجَةِ.

ثُمَّ كَانَتْ فَرْضِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ بَعْدَمَا صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِشَهْرٍ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنِ الْهِجْرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَقِيلَ: لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَهُ صَوْمٌ، وَقِيلَ: كَانَ ثُمَّ نُسِخَ، فَقِيلَ: عَاشُورَاءُ، وَقِيلَ: الْأَيَّامُ الْبِيضُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ اسْتَنْكَرُوهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَخُيِّرُوا بَيْنَ الصَّوْمِ وَإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِمَا فِي آخِرِهَا {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] وَلَمَّا فُرِضَ كَانَ يُبَاحُ بَعْدَ الْغُرُوبِ تَعَاطِي الْمُفْطِرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ نَوْمٌ أَوْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَإِلَّا حُرِّمَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَأُبِيحَ تَعَاطِيهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

١٩٥٦ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ» ") أَيْ وَقْتُ شَهْرِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ، فِي الْقَامُوسِ: رَمِضَ يَوْمُنَا كَفَرِحَ: اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَقَدَمُهُ احْتَرَقَتْ مِنَ الرَّمْضَاءِ لِلْأَرْضِ الشَّدِيدَةِ الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَرَافَقَ زَمَنَ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ: اشْتَدَّ حَرُّ جَوْفِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ، وَرَمَضَانُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَغَيْرُ مُشْتَقٍّ، أَوْ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْغَافِرِ، أَيْ يَمْحُو الذُّنُوبَ وَيَمْحَقُهَا " فُتِحَتْ " بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَمَا فِي التَّنْزِيلِ، وَبِالتَّشْدِيدِ لِتَكْثِيرِ الْمَفْعُولِ " أَبْوَابُ السَّمَاءِ " قِيلَ: فَتْحُهَا كِنَايَةٌ عَنْ تَوَاتُرِ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَتَوَالِي طُلُوعِ الطَّاعَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبْوَابِ الرَّحْمَةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِمَنْ مَاتَ فِيهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يَفْسُدُ عَلَيْهِ، (وَفِي رِوَايَةٍ: " «فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» ") ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ فِعْلِ مَا يُؤَدِّي إِلَى دُخُولِهَا " وَغُلِّقَتْ " بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ " أَبْوَابُ جَهَنَّمَ " وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ امْتِنَاعِ مَا يَدْخُلُ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الصَّائِمَ يَتَنَزَّهُ عَنِ الْكَبَائِرِ، وَيُغْفَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصِّيَامِ الصَّغَائِرُ، وَقَدْ وَرَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَتْحُ أَبْوَابِ السَّمَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الرَّحْمَةِ، وَإِزَالَةِ الْغَلْقِ عَنْ مَصَاعِدِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تَارَةً بِبَذْلِ التَّوْفِيقِ، وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَوْلِ، وَغَلْقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَزُّهِ أَنْفُسِ الصَّائِمِ عَنْ رِجْسِ الْفَوَاحِشِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْمَعَاصِي بِقَمْعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَحْمِلُوا عَلَى ظَاهِرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>