للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

عَنْ طَرِيقِ الْهَدْيِ وَأَوْقَعَهُ فِي سَبِيلِ الرَّدَى وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ) ، أَيِ الْمُحْكَمُ الْقَوِيُّ وَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، أَيِ الْوَسِيلَةُ الْقَوِيَّةُ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَسَعَادَةِ قُرْبِهِ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: ١٠٣] (وَهُوَ الذِّكْرُ) ، أَيْ مَا يُذَّكِّرُ بِهِ الْحَقُّ - تَعَالَى - أَوْ مَا يَتَذَكَّرُ بِهِ الْخَلْقُ، أَيْ يَتَّعِظُ (الْحَكِيمُ) ، أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ أَوِ الْحَاكِمِ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَوْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَوِ الْمُحْكِمِ آيَاتِهِ الْقَوِيِّ بُنْيَانِهِ لَا يُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَقْدِرَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَالَ - تَعَالَى - {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢] أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤] وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْمُذَكِّرِ فَالْمُرَادُ بِالْحَكِيمِ ذُو الْحِكْمَةِ وَأَمَّا تَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَبَعِيدٌ (وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ) ، أَيْ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّضْلِيلِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: ٦] فَمَنْ سَلَكَهُ نَجَا وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ غَوَى (هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ لَا تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ (بِهِ) ، أَيْ بِاتِّبَاعِهِ (الْأَهْوَاءُ) ، أَيِ الْهَوَى إِذَا وَافَقَ هَذَا الْهَدْيَ حُفِظَ مِنَ الرَّدَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مُبْتَدِعًا وَضَالًّا يَعْنِي لَا يَمِيلُ بِسَبَبِهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ لَا يُقَالُ قِيلَ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْكَازَرُونِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ أَيْضًا يَسْتَدِلُّونَ بِالْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عِنْدَ الْبُرْهَانِ، قَالَ - تَعَالَى - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦] لِأَنَّا نَقُولُ سَبَبُ الْإِضْلَالِ عَدَمُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَإِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَرَكُوا الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ وَفَى الْقُرْآنِ " {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: ٧] " فَمَا عَرَفُوا الْقُرْآنَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا قَلَّدُوا مَنْ هُوَ كَامِلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَدِلَّتِهِ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا حَيْثُ أَنْكَرُوا الْحَدِيثَ وَدَفَعُوا، وَلِذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِنَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَمَرَّ قَانِعًا بِجَهْلِهِ فَهُوَ ضَحِكَةٌ لِلشَّيْطَانِ مَخْسَرَةٌ لَهُ لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ:، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ عَلَى تَبْدِيلِهِ وَتَغْيِيرِ إِمَالَتِهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ مِنَ الْإِزَاغَةِ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ لَا يُمِيلُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَعَدَمِ الْإِقَامَةِ كَفِعْلِ الْيَهُودِ بِالتَّوْرَاةِ حِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] (وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ) ، أَيْ لَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، قَالَ - تَعَالَى - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: ٩٧ - ١٧] وَقِيلَ: لَا يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ وَيَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَحْفَظُهُ، أَوْ يُشْتَبَهُ كَلَامُ الرَّبِّ بِكَلَامِ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَلَامًا مَعْصُومًا دَالًّا عَلَى الْإِعْجَازِ وَلِذَا لَا يَجِدُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا يَسِيرًا " {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] " (وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ) ، أَيْ لَا يَصِلُونَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَقِفُوا عَنْ طَلَبِهِ وُقُوفَ مَنْ يَشْبَعُ مِنْ مَطْعُومٍ، بَلْ كُلَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِهِ اشْتَاقُوا إِلَى آخَرَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا فَلَا شِبَعَ وَلَا سَآمَةَ (وَلَا يَخْلُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنْ خَلِقَ الثَّوْبُ إِذَا بَلِيَ وَكَذَلِكَ أَخْلَقَ (عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ) ، أَيْ لَا تَزُولُ لَذَّةُ قِرَاءَتِهِ وَطَرَاوَةُ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعُ أَذْكَارِهِ وَأَخْبَارِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ بَابُهَا، أَيْ لَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَلَامِ غَيْرِهِ - تَعَالَى - الْمَقُولِ فِيهِ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى مُعَادَاةِ الْمُعَادَاتِ بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ:

أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ

وَلِذَا كُلَّمَا زَادَ الْعَبْدُ مِنْ تَكْرَارِ قِرَاءَتِهِ أَوْ سَمَاعِ تِلَاوَتِهِ ازْدَادَ فِي حَلَاوَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ لِحُصُولِ مُتَمَنَّاهُ، وَلِذَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَتِرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلًا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ عَنْ بِمَعْنَى مَعَ (وَلَا يَنْقَضِي عَجَائِبُهُ) ، أَيْ لَا يَنْتَهِي غَرَائِبُهُ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، قِيلَ: كَالْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ لِلْقَرِيبَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجْرٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَجَائِبِ بِحَيْثُ لَا يَتَنَاهَى أَقْوَى مِنْ عَدَمِ شِبَعِ الْعُلَمَاءِ وَنَفْيِ الْبِلَى بَلْ أَعْلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>