وَالثَّانِي: عَلَى مَا إِذَا حَدَّثَ بِأَحَادِيثِهَا مُوهِمًا نَسْبَتَهَا إِلَيْهِ قِرَاءَةً، وَإِسْنَادًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ التَّغْرِيرِ. وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ عَلَى الثَّانِي مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَنْعُ إِيرَادِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا لِمَنْ لَا رِوَايَةٌ لَهُ بِهِ، وَجَوَازُ نَقْلِ مَا لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا (وَسَرَدْتُ الْكُتُبَ وَالْأَبْوَابَ) أَيْ: أَوْرَدْتُهَا، وَوَضَعْتُهَا مُتَتَابِعَةً مُتَوَالِيَةً (كَمَا سَرَدَهَا) أَيْ: رَتَّبَهَا، وَعَيَّنَهَا الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَصَابِيحِ (وَاقْتَفَيْتُ) أَيِ: اتَّبَعْتُ (أَثَرَهُ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: طَرِيقَهُ (فِيهَا) أَيِ: الْكُتُبِ، وَالْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَتَأْخِيرٍ، وَزِيَادَةِ عُنْوَانٍ، وَتَغْيِيرٍ ; فَإِنَّ تَرْتِيبَهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَبْوِيبَهُ فِي غَايَةٍ مِنَ الِحُسْنِ، وَالْجَمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِكَمَالِ الْمُتَابَعَةِ، وَتَبْرِئَةً عَمَّا قَدْ يَرِدُ عَلَى إِيرَادِهِ بَعْضَ الْكُتُبِ، وَالْأَبْوَابِ مِنْ وُجُوهِ الْمُنَاسَبَةِ (وَقَسَمْتُ) : بِالتَّخْفِيفِ (كُلَّ بَابٍ) : وَكَذَا كُلُّ كِتَابٍ أَيْ: جَعَلْتُهُ مَقْسُومًا (غَالِبًا) أَيْ: فِي غَالِبِ الْحَالِ (عَلَى فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ) : وَقَيْدُ الْغَالِبِيَّةِ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ الْفَصْلُ الثَّانِي، أَوِ الثَّالِثُ، أَوْ كِلَاهُمَا فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ مِنَ الْكِتَابِ.
(أَوَّلُهَا) أَيْ: أَوَّلُ الْفُصُولِ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَدَلُ قَوْلِ الْبَغَوِيِّ فِي الْمَصَابِيحِ مِنَ الصِّحَاحِ (مَا أَخْرَجَهُ) أَيْ: أَوْرَدَهُ، أَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَحَادِيثِ (الشَّيْخَانِ) أَيْ: يَزْعُمُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنْ عَثَرْتَ عَلَى اخْتِلَافِ الْفَصْلَيْنِ) ، أَوِ الْمُرَادُ فِي الْغَالِبِ وَالنَّادِرِ كَالْمَعْدُومِ (أَوْ أَحَدُهُمَا) أَيْ: أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ بِزَعْمِهِ أَيْضًا، وَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالرَّافِعِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (وَاكْتَفَيْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ، وَأَكْتَفِي، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْمَعْلُومَ الْتِفَاتًا، وَالْمَجْهُولَ مِنَ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (بِهِمَا) أَيْ: بِذِكْرِهِمَا فِي التَّخْرِيجِ (وَإِنِ اشْتَرَكَ) : وَصِيلَةٌ لَا تَطْلُبُ جَزَاءً وَلَا جَوَابًا (فِيهِ) أَيْ: فِي تَخْرِيجِهِ (الْغَيْرُ) أَيْ: غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَالْمُخْرِجِينَ كَبَقِيَّةِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَنَحْوِهَا (لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمَا) أَيْ: عَلَى سَائِرِ الْمُخْرِجِينَ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (فِي الرِّوَايَةِ) : مُتَعَلِّقٌ بِالْعُلُوِّ، أَيْ: فِي شَرَائِطِ إِسْنَادِهَا، وَالْتِزَامِ صِحَّتِهَا مَا يَلْتَزِمُهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْهُمَا فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ أَخَذَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عَنْ مَالِكٍ، وَلِذَا قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: إِنَّ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ كَذَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لِلْإِسْنَادِ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَمِلُ ذَمًّا بِنَاءً عَلَى التَّصَوُّفِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى عِلْمِ الْبَاطِنِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: حَدَّثَنَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ قَصْدُهُ السُّمْعَةَ، وَغَرَضُهُ الرِّيَاءَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِهِمَا الَّذِي الْتَزَمَاهُ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ، وَصَاحِبُهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاوِيَانِ فَأَكْثَرُ، ثُمَّ يَكُونَ لِلتَّابِعِيِّ الْمَشْهُورِ رَاوِيَانِ ثِقَتَانِ، ثُمَّ يَرْوِيهِ عَنْهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْمَشْهُورُ، وَلَهُ رُوَاةٌ ثِقَاتٌ مِنَ الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مُسْلِمٍ حَافِظًا مُتْقِنًا مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ فِي رِوَايَتِهِ، وَلَهُ رُوَاةٌ، ثُمَّ يَتَدَاوَلُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِالْقَبُولِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ إِنِ انْتَقَضَ فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ أَخْرَجَا لَهُمْ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَيْسَ فِي كِتَابَيْهِمَا حَدِيثٌ أَصْلًا مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ فَقَطْ اهـ.
قِيلَ: وَالْحَاكِمُ مُوَافِقٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الصَّحَابَةِ فَكَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: عَلَى شَرْطِهِمَا، أَوْ شَرْطِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَالذَّهَبِيِّ كَأَبِي الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ رِجَالُ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute