لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَدَبُنَا مَعَ هَذَا الْإِمَامِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ نُظْهِرَ خِلَافَهُ بِحَضْرَتِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَلْمَذَ لَهُ كِبَارٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. اهـ.
وَمِنْهُمْ: دَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَمَا اسْتَظَلَّ بِحَائِطِ الْمَدْيُونِ حِينَ أَتَاهُ مُتَقَاضِيًا، وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالٍ أَتَى بِهِ وَكِيلُهُ إِلَيْهِ لَمَّا خَلَطَ ثَمَنَ ثَوْبٍ مَعِيبٍ بِيعَ مَخْفِيًّا، قِيلَ: وَكَانَ الْمَالُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَتَرَكَ لَحْمَ الْغَنَمِ لَمَّا فُقِدَتْ شَاةٌ فِي الْكُوفَةِ سَبْعَ سِنِينَ لَمَّا قِيلَ: إِنَّهَا أَكْثَرُ مَا تَعِيشُ فِيهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ لَمَّا قَالَ فِيمَا قَدَّمَهُ: (فَأَعْلَمْتُ مَا أَغْفُلُهُ) اسْتَشْعَرَ اعْتِرَاضًا بِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْحَقِيقِيِّ إِنَّمَا هُوَ بِإِيرَادِ الْإِسْنَادِ الْكُلِّيِّ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ رِجَالِهِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِهِ، وَضَعْفِهِ، وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ فَاعْتَذَرَ عَنِ الْإِشْكَالِ فَقَالَ:
(وَإِنِّي إِذَا نَسَبْتُ الْحَدِيثَ) أَيْ: كُلَّ حَدِيثٍ (إِلَيْهِمْ) أَيْ: إِلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ الْمَعْرُوفَةِ كُتُبُهُمْ بِأَسَانِيدِهِمْ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ (كَأَنِّي أَسْنَدْتُ) أَيِ: الْحَدِيثَ بِرِجَالِهِ (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ: فِيمَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِلَى أَصْحَابِهِ إِذَا كَانَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الْمَرْفُوعُ حُكْمًا ; (لِأَنَّهُمْ) أَيِ: الْأَئِمَّةُ (قَدْ فَرَغُوا مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْإِسْنَادِ الْكَامِلِ بِذِكْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَفْهُومِ مِنْ أَسْنَدْتُ عَلَى حَدِّ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: ٢٣٧] . اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا} [البقرة: ٢٣٧] بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَفْوُكُمْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى نَحْوَ {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى حَدِّ: اعْدِلُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، ثُمَّ فِي أَصْلِهِ عَلَى حَدِّ: وَأَنْ تَعْفُوا هُوَ أَقْرَبُ، وَهُوَ إِمَّا سَهْوٌ مِنَ الْكُتَّابِ، أَوْ وَهْمٌ مِنْ مُصَنِّفِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَغْنَوْنَا) : بِهَمْزَةِ قَطْعٍ، أَيْ:، وَجَعَلُونَا فِي غِنًى، وَكِفَايَةٍ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ تَحْقِيقِ الْإِسْنَادِ مِنْ وَصْلِهِ، وَقَطْعِهِ، وَوَقْفِهِ، وَرَفْعِهِ، وَضَعْفِهِ، وَحُسْنِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَوَضْعِهِ ; وَمِنْ ثَمَّ لَزِمَ الْأَخْذُ بِنَصِّ أَحَدِهِمْ عَلَى صِحَّةِ السَّنَدِ، أَوِ الْحَدِيثِ، أَوْ عَلَى حُسْنِهِ، أَوْ ضَعْفِهِ، أَوْ وَضْعِهِ، فَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ الْمُعْتَمَدَةِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ، أَوْ صَحَّتْ نِسْبَتُهَا لِمُؤَلِّفِيهَا كَالْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ، وَسَوَاءٌ فِي جَوَازِ نَقْلِهِ مِمَّا ذُكِرَ أَكَانَ نَقْلُهُ لِلْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ، وَلَوْ فِي الْأَحْكَامِ، أَوْ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعَدُّدُ الْأَصْلِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ مِنَ اشْتِرَاطِهِ حَمَلُوهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالِاسْتِظْهَارِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُوبِلَ عَلَى أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مُقَابَلَةً صَحِيحَةً ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الثِّقَةُ الَّتِي مَدَارُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا صِحَّةً، وَاحْتِجَاجًا، نَعَمْ، نُسَخُ التِّرْمِذِيِّ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بَلْ، وَسُنَنُ أَبِي دَاوُدَ أَيْضًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُقَابَلَةِ عَلَى أُصُولٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْهُمَا، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي النَّقْلِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ لِلْعَمَلِ وَالِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ إِلَى مُؤَلِّفِيهَا ; وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ عَلَى سَمَاعِهِ بَلْ إِذَا صَحَّتْ عِنْدَهُ النُّسْخَةُ مِنَ السُّنَنِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَشَذَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالَ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ مَرْوِيًّا، وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ ; لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ( «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِحَذْفِ مُتَعَمِّدًا، وَتَبِعَهُ الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ أَنَّهُ يَقْبُحُ لِلطَّالِبِ أَنْ لَا يَحْفَظَ بِإِسْنَادِهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ يَتَخَلَّصُ بِهَا عَنْ كَذَا، وَعَنْ كَذَا. قَالَ: وَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنَ الْجَرْحِ بِنَقْلِ مَا لَيْسَتْ لَهُ بِهِ رِوَايَةٌ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ. وَانْتَصَرَ جَمَاعَةٌ لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِجْمَاعَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إِذَا نَظَرَ فِي الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لِلْعَمَلِ، أَوِ الِاحْتِجَاجِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute