للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

يُرَدِّدُهَا، وَيَبْكِي، وَيَتَضَرَّعُ. وَقَالَ وَكِيعٌ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَحْلِفَ بِاللَّهِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ إِلَّا تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، فَحَلَفَ فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ جَعَلَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، فَكَانَ إِذَا حَلَفَ صَادِقًا فِي عَرْضِ كَلَامِهِ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، وَكَانَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى عِيَالِهِ نَفَقَةً تَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا، وَكَانَ إِذَا اكْتَسَى ثَوْبًا جَدِيدًا كَسَى بِقَدْرِ ثَمَنِهِ الشُّيُوخَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامُ أَخَذَ مِنْهُ ضِعْفَ مَا يَأْكُلُهُ فَيَجْعَلُهُ عَلَى الْخُبْزِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ الْفَقِيرَ، وَوَهَبَ لِمُعَلِّمِ ابْنِهِ حَمَّادٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمَّا خَتَمَ. وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبَ خَزٍّ فَأَخْرَجَ لَهَا ثَوْبًا فَقَالَتْ: إِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ فَبِعْنِيهِ بِمَا يَقُومُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: خُذِيهِ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: لَا تَسْخَرْ بِي، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَقَالَ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ ثَوْبَيْنِ فَبِعْتُ أَحَدَهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَبَقِيَ هَذَا بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لِلثَّوْرِيِّ: مَا أَبْعَدَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْغَيْبَةِ، مَا سَمِعْتُهُ يَغْتَابُ عَدُوًّا لَهُ قَطُّ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى حَسَنَاتِهِ مَا يَذْهَبُ بِهَا. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ حَفِيدُهُ: كَانَ عِنْدَنَا رَافِضِيٌّ لَهُ بَغْلَانِ، سَمَّى أَحَدَهُمَا أَبَا بَكْرٍ، وَالْآخَرَ عُمَرَ، فَرَمَحَهُ أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ فَقِيلَ لِجَدِّي، فَقَالَ: مَا قَتَلَهُ إِلَّا الْمُسَمَّى بِعُمَرَ فَكَانَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَظْهَرُ الْجَلَالِ، وَأَبُو بَكْرٍ مَظْهَرُ الْجَمَالِ. وَكَانَ بَعْضُ جَمَاعَةِ الْمَنْصُورِ يَبْغَضُهُ فَلَمَّا رَآهُ عِنْدَ الْمَنْصُورِ قَالَ: الْيَوْمَ أَقْتُلُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُنَا بِضَرْبِ عُنُقِ الرَّجُلِ مَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَهَلْ لَنَا قَتْلُهُ؟ قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُ بِالْحَقِّ، أَوْ بِالْبَاطِلِ؟ قَالَ: بِالْحَقِّ، قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ حَيْثُ قَالَ، وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ: إِنَّ هَذَا أَرَادَ أَنْ يُوبِقَنِي فَرَبَطْتُهُ.

وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَقِيلَ: فِي السِّجْنِ عَلَى أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ سَنَةَ خَمْسِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، أَوْ إِحْدَى، أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ فِي رَجَبٍ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ بِهَا يُزَارُ، وَيُتَبَرَّكُ بِهِ. وَمِنْ وَرَعِهِ أَنَّهُ أَرَادَ شِرَاءَ أَمَةٍ يَتَسَرَّى بِهَا فَاسْتَمَرَّ عِشْرِينَ سَنَةً يُفَتِّشُ السَّبَايَا، وَيَسْأَلُ عَنْهُنَّ حَتَّى اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِشِرَاءِ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ كَرَامَاتِهِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ هَرَبَ صَغِيرًا إِلَيْهِ مِنْ أُمِّهِ لِيُتْمِهِ، وَفَقْرِهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُ لِلْإِمَامِ، وَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَفْسَدْتَ وَلَدِي فَأَعْطَاهُ لَهَا، ثُمَّ هَرَبَ إِلَيْهِ، وَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الضَّيِّقَةِ: كَيْفَ بِكَ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ فِي صَحْنِ الْفَيْرُوجِ؟ ! فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَوَصَلَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ الرَّشِيدِ مَا وَصَلَ دَعَاهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا، وَأَخْرَجَ لَهُ فَالَوْذَجًا كَذَلِكَ، فَضَحِكَ أَبُو يُوسُفَ فَعَجِبَ مِنْهُ الرَّشِيدُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ اهـ. كَلَامُ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ مُلَخَّصًا، وَاكْتَفَيْنَا بِكَلَامِهِ ; فَإِنَّهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ حُجَّةٌ، وَفِيمَا نَقَلَهُ لِلْمُوَافِقِينَ كِفَايَةٌ ; لِأَنَّ الْمُطْنِبَ فِي نَعْتِهِ مُقَصِّرٌ، وَالْمُسْهِبَ فِي مَنْقَبَتِهِ مُخْتَصِرٌ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَقَعُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَدَعَاهُ، وَقَالَ: يَا هَذَا، أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْفِقْهِ، وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمُ الرُّبْعَ؟ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْفِقْهُ سُؤَالٌ، وَجَوَابٌ، وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِوَضْعِ الْأَسْئِلَةِ فَسَلِمَ لَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنِ الْكُلِّ، وَخُصُومُهُ لَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا جُعِلَ مَا وَافَقُوا فِيهِ مُقَابَلًا بِمَا خَالَفُوا فِيهِ سَلِمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ، وَبَقِيَ الرُّبُعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ النَّاسِ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي مَنَاقِبِهِ الْمُسَمَّى بِالْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: رَأَيْتُ أَبَا حَنِيفَةَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ رَجُلًا لَوْ كَلَّمَكَ فِي السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ. وَلَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ زَارَ قَبْرَهُ، وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ كَانَتَا الصُّبْحَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْنُتْ فَقِيلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>