لِأَنَّهُ نَسَبَنِي إِلَى الْكَذِبِ، فَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلَا أَصْلُحُ، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَقَدْ أَخْبَرْتُ أَنِّي لَا أَصْلُحُ فَرَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ، فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ: رَأَيْتُ الْمَنْصُورَ يُحَاوِرُهُ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكْ فِي أَمَانَتِكَ إِلَّا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ، وَاللَّهِ مَا أَنَا مَأْمُونُ الرِّضَا فَكَيْفَ أَكُونُ مَأْمُونَ الْغَضَبِ؟ ! فَلَا أَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ، أَنْتَ تَصْلُحُ، فَقَالَ: قَدْ حَكَمْتَ عَلَى نَفْسِكَ، كَيْفَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُوَلِّيَ قَاضِيًا عَلَى أَمَانَتِكَ، وَهُوَ كَذَّابٌ؟ وَذُكِرَ أَبُو حَنِيفَةَ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَقَالَ: أَتَذْكُرُونَ رَجُلًا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَفَرَّ مِنْهَا. وَكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الثِّيَابِ طَيِّبَ الرِّيحِ، يُعْرَفُ بِرِيحِ الطِّيبِ إِذَا أَقْبَلَ، كَثِيرَ الْكَرَمِ حَسَنَ الْمُوَاسَاةِ لِإِخْوَانِهِ رَبْعَةً أَحْسَنَ النَّاسِ مَنْطِقًا، وَأَحْلَاهُمْ نَغَمَةً. قَالَ: قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَجَبْتُ عَنْهُ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي فِيهَا جَوَابٌ ; فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُفَارِقَ حَمَّادًا حَتَّى يَمُوتَ، فَصَحِبْتُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً مُنْذُ مَاتَ إِلَّا اسْتَغْفَرْتُ لَهُ قَبْلَ أَبَوَيَّ، أَوْ قَالَ: مَعَ وَالِدَيَّ، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ لِمَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ عِلْمًا، أَوْ تَعَلَّمَ مِنِّي عِلْمًا. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ: عَمَّنْ أَخَذْتَ الْعِلْمَ؟ فَقُلْتُ: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: بَخٍ بَخٍ، اسْتَوْفَيْتَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ، وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ نَبَشَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ مَنْ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ: مَنْ صَاحِبُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: صَاحِبُ هَذِهِ الرُّؤْيَا يُبْرِزُ عِلْمًا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ مِمَّنْ قَبْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ آيَةً فَقِيلَ لَهُ: فِي الْخَيْرِ أَمْ فِي الشَّرِّ؟ قَالَ: اسْكُتْ يَا هَذَا؟ فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ آيَةٌ فِي الْخَيْرِ، وَغَايَةٌ فِي الشَّرِّ، ثُمَّ تَلَا: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: ٥٠] . وَقَالَ: كَانَ يَوْمًا فِي الْجَامِعِ فَوَقَعَتْ حَيَّةٌ فَسَقَطَتْ فِي حِجْرِهِ ; فَهَرَبَ النَّاسُ، وَهُوَ لَمْ يَزِدْ عَلَى نَفْضِهَا، وَجَلَسَ مَكَانَهُ، وَكَانَ خَزَّازًا يَبِيعُ الْخَزَّ، وَدُكَّانُهُ مَعْرُوفٌ فِي دَارِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَمَاتَ أَخُو سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِعَزَائِهِ، فَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَامَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَقْعَدَهُ فِي مَكَانِهِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ قَالَ أَصْحَابُ سُفْيَانَ: رَأَيْنَاكَ فَعَلْتَ شَيْئًا عَجِيبًا! قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعِلْمِ بِمَكَانٍ، فَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِعِلْمِهِ قُمْتُ لِسِنِّهِ، وَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِسِنِّهِ قُمْتُ لِفِقْهِهِ، وَإِنْ لَمْ أَقُمْ لِفِقْهِهِ قُمْتُ لِوَرَعِهِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَانَ النَّاسُ نِيَامًا عَنِ الْفِقْهِ حَتَّى أَيْقَظَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا فَتَّقَهُ، وَبَيَّنَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَلْيَلْزَمْ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ الرَّبِيعِ: أَقَمْتُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَمَا رَأَيْتُ أَطْوَلَ صَمْتًا مِنْهُ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فِي الْفِقْهِ سَالَ كَالْوَادِي. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا قَدِمَ مَكَّةَ فِي وَقْتِنَا رَجُلٌ أَكْثَرُ صَلَاةً مِنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الزَّاهِدُ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَنَامُ فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: كَانَ يُسَمَّى الْوَتِدَ لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو: صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَامَّةَ اللَّيْلِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ حَتَّى يُرَحِّمَ عَلَيْهِ جِيرَانُهُ. وَحُفِظَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ، وَلَمَّا غَسَّلَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! لَمْ تُفْطِرْ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَمْ تَتَوَسَّدْ يَمِينَكَ فِي اللَّيْلِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ زَائِدَةُ: صَلَّيْتُ مَعَهُ فِي مَسْجِدِهِ الْعِشَاءَ، وَخَرَجَ النَّاسُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنِّي فِي الْمَسْجِدِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ مَسْأَلَةً، فَقَامَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: ٢٧] فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَأَنَا أَنْتَظِرُهُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ: قَامَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْلَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: ٤٦]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute