لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيْ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ هَكَذَا عَلَى التَّخْيِيرِ أُنْزِلَتْ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ) : أَيْ جَمِيعُهُ (أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ لُغَاتٍ، أَوْ قِرَاءَاتٍ، أَوْ أَنْوَاعٍ، قِيلَ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى وَعَلَى الْجِهَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْقِرَاءَاتِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْأُوَلِ: اخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ فِي نَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَنْشِزُهَا، وَنُنْشِزُهَا، وَقَوْلِهِ: سَارَعُوا، وَسَارِعُوا، الثَّانِي: التَّغْيِيرُ بِالْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ كَكُتُبِهِ، وَكِتَابِهِ، الثَّالِثُ: بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ كَمَا فِي يَكُنْ، وَتَكُنْ، الرَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ التَّصْرِيفِيُّ كَالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ يَكْذِبُونَ، وَيُكَذِّبُونَ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ نَحْوَ يَقْنُطُ، وَيَقْنَطُ، الْخَامِسُ: الِاخْتِلَافُ الْإِعْرَابِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ بِرَفْعِ الدَّالِ، وَجَرِّهَا، السَّادِسُ: اخْتِلَافُ الْأَدَاةِ نَحْوَ لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِهَا، السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالتَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا الْقَلِيلُ مِثْلُ عَبْدِ الطَّاغُوتِ، وَلَا تَقُلْ أُفٍّ لَهُمَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَيْسِيرٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: ٢٠] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَالْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَجَازَ بِأَنْ يَقْرَؤُا مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوَاتُرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعَةِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ; فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ; لِأَنَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِهَا مِنْ إِدْغَامٍ، وَإِظْهَارٍ، وَتَفْخِيمٍ، وَتَرْقِيقٍ، وَإِمَالَةٍ، وَمَدٍّ، وَقَصْرٍ، وَتَلْيِينٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ اللُّغَاتِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْرَأَ كُلٌّ بِمَا يُوَافِقُ لُغَتَهُ وَيَسْهُلُ عَلَى لِسَانِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْإِدْغَامَ مَثَلًا فِي مَوَاضِعَ لَا يَجُوزُ الْإِظْهَارُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِوُجُوهِ إِشْبَاعِ مِيمِ الْجَمْعِ وَقَصْرِهِ، وَإِشْبَاعِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَتَرْكِهِ، مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهِ كَاخْتِلَافِ الْبُخْلِ وَالْبَخْلِ، وَيَحْسَبُ وَيَقْنَطُ، وَالصِّرَاطُ وَالسِّرَاطُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَنَسَبَهُ إِلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوَ أَقْبِلْ، وَتَعَالَ، وَعَجِّلْ، وَهَلُمَّ، وَأَسِرْ، فَيَجُوزُ إِبْدَالُ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ لَا بِضِدِّهِ، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرِيحٍ فِيهِ وَعِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا» " وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَهُ لِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَيْضًا " «الْقُرْآنُ كُلُّ صَوَابٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا، أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً» " وَلِهَذَا كَانَ أُبَيُّ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ سَعَوْا فِيهِ} [البقرة: ٢٠] ، بَدَلَ مَشَوْا فِيهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا، بَدَلَ انْظِرُونَا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا مِنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا يُبْدِلَانِ لَفْظًا مِنْ عِنْدِهِمَا بَدَلًا مِمَّا سَمِعَاهُ مِنْ لَفَظَ النُّبُوَّةِ وَأَقَامَاهُ مَقَامَهُ مِنَ التِّلَاوَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمَا، أَوْ سَمِعَا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْوُجُوهَ فَقَرَأَ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا كَمَا هُوَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الشَّأْنِ وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ، وَآخَرُونَ، هَذَا وَكَأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُشِفَ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَسْتَقِرُّ فِي أُمَّتِهِ عَلَى سَبْعٍ، وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهَا شَاذٌّ لَا يَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : أَيْ مَعْنًى (وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) . وَحَدِيثُ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ادَّعَى أَبُو عُبَيْدَةَ تَوَاتُرَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: ( «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيُزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «فَرَدَّدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ التَّخْفِيفُ وَالتَّسْهِيلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " هَوِّنَ عَلَى أُمَّتِي " وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ آخِرَ الْحَدِيثِ " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute