الصِّدِّيقِ جَمْعُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ أَحْرُفِهِ وَوُجُوهِهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ غَرَضُ عُثْمَانَ تَجْرِيدُ لُغَةِ قُرَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْقُرْآنِ، فَجَمْعُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرُ جَمْعِ عُثْمَانَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَصَدَ بِإِحْضَارِ تِلْكَ الصُّحُفِ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ وَمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ حَفَظَةٌ، قُلْتُ: الْغَرَضُ بِذَلِكَ سَدُّ بَابِ الْمَقَالِ وَأَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنًا لَمْ يُكْتَبْ، وَلِئَلَّا يَرَى إِنْسَانٌ فِيمَا كَتَبُوهُ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ فَيُنْكِرُهُ، فَالصُّحُفُ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ جَمِيعِ مَا كَتَبُوهُ (فَفَعَلُوا) أَيْ: الْجَمْعُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (حَتَّى إِذَا نَسَخُوا) أَيْ: كَتَبُوا (الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْآفَاقِ (بِصُحُفٍ مِمَّا نَسَخُوا) قَالَ السَّخَاوِيُّ: سَيَّرَ مِنْهَا مُصْحَفًا إِلَى الْكُوفَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الْبَصْرَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الشَّامِ، وَأَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيَّرَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِينِ مُصْحَفًا، وَإِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا، وَإِلَى الْيَمَنِ مُصْحَفًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَبْعَةُ مَصَاحِفَ، وَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ، فَقِيلَ: أَنَّهُ كَتَبَ خَمْسَ نُسَخٍ، الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمُصْحَفُ مَكَّةَ، وَأَمَّا مُصْحَفُ الْبَحْرِينِ، وَمُصْحَفُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا خَبَرٌ، قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْمَصَاحِفِ كُتِبَتْ أَوَّلًا عَلَى أَيْدِي الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ فَأَرْسَلَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرَكَ وَاحِدًا فِي الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي كَتَبَهُ زَيْدٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجَلِّ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، فَخَطُّهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا مَحْفُوظًا فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَكْتَبَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَصَاحِفَ أُخَرَ فَأَرْسَلَ إِلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ، حَتَّى قِيلَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كُلِّ جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ مُصْحَفًا (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ) أَيْ: الْمَنْسُوخُ (فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مِنَ الْإِحْرَاقِ، قَدْ يُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: يَنْقَضُّ وَيُقْطَعُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَنْ يُخْرَقَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلْمَرْوَزِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفَّى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُهْمِلَةِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ مِنْ أَمْرِ الْمَصَاحِفِ حَرَقَ مَا سِوَاهَا، وَرَدَّ تِلْكَ الصُّحُفَ الْأُولَى إِلَى حَفْصَةَ فَكَانَتْ عِنْدَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ مَرْوَانُ الْمَدِينَةَ طَلَبَهَا لِيَحْرِقَهَا فَلَمْ تُجِبْهُ حَفْصَةُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَبْعَثْ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَتْ حَضَرَ مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهَا وَطَلَبَ الصُّحُفَ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا، فَسَيَّرَهَا إِلَيْهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ فَحَرَقَهَا خَشْيَةَ أَنْ تَظْهَرَ فَيَعُودُ النَّاسُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَرَقِ الْمُصْحَفِ الْبَالِي إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَفْعٌ أَنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْغَسْلُ، أَوِ الْإِحْرَاقُ؟ فَقِيلَ: الثَّانِي لِأَنَّهُ يَدْفَعُ سَائِرَ صُوَرِ الِامْتِهَانِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ فَإِنَّهُ تُدَاسُ غُسَالَتَهُ، وَقِيلَ الْغَسْلُ وَتُصَبُّ الْغُسَالَةُ فِي مَحَلٍّ طَاهِرٍ لِأَنَّ الْحَرْقَ فِيهِ نَوْعُ إِهَانَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِعْلُ عُثْمَانُ يُرَجِّحُ الْإِحْرَاقَ، وَحَرْقُهُ بِقَصْدِ صِيَانَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا امْتِهَانَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَمَا وَقَعَ لِأَئِمَّتِنَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ حُرْمَةِ الْحَرْقِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ بِأَنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ لَهُ قِيمَةٌ يُذْهِبُهَا الْحَرْقُ، قُلْتُ: هَذَا تَأْوِيلٌ غَرِيبٌ وَتَفْرِيعٌ عَجِيبٌ فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ وَالْقِيَاسُ عَلَى فِعْلِ عُثْمَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ صَنِيعَهُ كَانَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْإِحْرَاقَ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّكَّ فِي كَوْنِهِ تَرَكَ بَعْضَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَمْ يُجَوِّزْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَحْرِقُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِحِفْظِ رَمَادِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِيمَا هُوَ الثَّابِتُ قَطْعًا فَمَعَ وُجُودِ الْفَرْقِ وَحُصُولِ ظَاهِرِ الْإِهَانَةِ يَتَعَيَّنُ الْغَسْلُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَبَ مَاؤُهُ فَإِنَّهُ دَوَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَاقٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، فَمَا دَعْوَاكُمُ الِاتِّفَاقُ؟ قُلْتُ: الْقِرَآتُ الَّتِي نُعَوِّلُ عَلَيْهَا الْآنَ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْمَصَاحِفِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى شَكْلٍ أَوْ نَقْطٍ فَلَا يَخْرُجُ أَيْضًا عَنْهَا، لِأَنَّ خُطُوطَ الْمَصَاحِفِ كَانَتْ مُهْمَلَةً مُحْتَمِلَةً لِجَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَا يُقْرَأُ فَصُرْهُنَّ: بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، وَكُلُّهُ لِلَّهِ: بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَيَضُرُّكُمْ وَبِضُرِّكُمْ، وَيَقُضُّ وَيَقُصُّ الْحَقَّ، وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: فِي الرَّائِيَةِ الْمَعْمُولَةِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِف الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْقُرْآنُ يُكْتَبُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ لَا مُسْتَحْدَثًا مُسَطَّرًا، قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي عُقَيْبَ قَوْلِ مَالِكٍ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيِّ (فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute