فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ تِلْكَ الصُّحُفَ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُرَتِّبًا لِسُوَرِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَسِعَ فِي قِرَاءَتِهِ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ رَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَرَأَى أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ فَاقْتَصَرَعَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ، قَلْتُ: هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ قُرْآنًا، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ فِي جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ الْمَنْسُوخَاتِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي مَا حَصَلَ فِيهَا التَّوَاتُرُ جَمْعًا كُلِّيًّا مِنْ غَيْرِ تَهْذِيبٍ وَتَرْتِيبٍ، فَتَرَكَ عُثْمَانُ الْمَنْسُوخَاتِ، وَأَبْقَى الْمُتَوَاتِرَاتِ، وَحَرَّرَ رُسُومَ الْكَلِمَاتِ، وَقَرَّرَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ عَلَى وَفْقِ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الْعَرْضَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ نُزُولُهَا مَنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِي الْحَالَاتُ وَالْمَقَامَاتُ، وَلِذَا قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: لَمْ يَقْصِدْ عُثْمَانُ قَصْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي نَفْسِ الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ جَمْعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلْغَاءَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَخَذَهُمْ بِمُصْحَفٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُتَعَالِ بِالْوَجْهِ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَقَالِ، فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا كَفَرَ فِي الْحَالِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيِ تَوْقِيفِيٌّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْآيَاتِ نُزُولًا {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: ٢٨١] فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَضَعَهَا بَيْنَ آيَتَيِ الرِّبَا وَالْمُدَايَنَةِ وَلِذَا حَرَّمَ عَكْسَ تَرْتِيبِهَا، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كُرِهَتْ مُخَالَفَتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ النِّسَاءَ قَبْلَ آلِ عِمْرَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ نِسْيَانًا لِيُعْلِمَ الصُّحْبَةَ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ مَصَاحِفُهُمْ مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ جَمْعِ عُثْمَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَهَا عَلَى النُّزُولِ وَهُوَ مُصْحَفُ عَلِيٍّ أَوَّلُهُ اقْرَأْ، فَالْمُدَّثِّرُ، فَنُونٌ، فَالْمُزَّمِّلُ، فَتَبَّتْ، فَالتَّكْوِيرُ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ كَوْنُ الْحَوَامِيمِ رُتِّبَتْ وَلَاءً، وَكَذَلِكَ الطَّوَاسِينُ، وَلَمْ يُرَتِّبِ الْمُسَبِّحَاتِ وَلَاءً بَلْ فَصَلَ بَيْنَ سُوَرِهَا، وَكَذَا اخْتِلَاطُ الْمَكِّيَّاتِ بِالْمَدَنِيَّاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute