فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، وَكَانَ هَذَا مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ دَوْقٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ وَابْنِ لَهِيعَةَ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ بَرَاءَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ طُرُقِهِمَا، وَرُدَّ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَاسِمٍ مُسْتَقِلٍّ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فِيهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ فِي بَرَاءَةَ ; لِأَنَّهَا أَمَانٌ، وَبَرَاءَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا ثَابِتَةٌ، أَوَّلُهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ (وَكَانَتْ قِصَّتُهَا) أَيِ: الْأَنْفَالِ (شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا) أَيْ: بَرَاءَةَ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ، وَلَعَلَّ الْمُشَابَهَةَ فِي قَضِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} [التوبة: ١٤] وَنَحْوِهِ، وَفِي نَبْذِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِأَنَّ الْأَنْفَالَ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَبَرَاءَةُ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي أَمْرِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَهُمَا (فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا) أَيِ: التَّوْبَةُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْأَنْفَالِ، أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا (فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ تَبْيِينِهِ وُجُوهَ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَيْ: لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ; لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ، وَلَمْ أَكْتُبْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَ لَمْ تَكْتُبْ؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ أَمَانٌ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ أُنْزِلَتْ بِالسَّيْفِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْتُبُهَا أَوَّلَ مُرَاسَلَاتِهِمْ فِي الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ، فَإِذَا نَبَذُوا الْعَهْدَ وَنَقَضُوا الْأَمَانَ لَمْ يَكْتُبُوهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ فَصَارَتْ عَلَامَةُ الْأَمَانِ وَعَدَمُهَا عَلَّامَةَ نَقْضِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَانٌ: وَقَوْلُهُمْ: آيَةُ رَحْمَةٍ، وَعَدَمُهَا عَذَابٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ (وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نُزِّلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُمِّلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا، ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ: الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ ; لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ الرَّاوِي: وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةَ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمَئِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسُ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ، أَوْ هُمَا سُورَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا، قَالَ: أَيْ عُثْمَانُ: فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا؟ قُلْتُ: فَمَا تَرَى، قَالَ: أَرَى أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِذَهَابِ حَمَلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمْعُهُ فِي صَحَائِفِهِ مُرَتَّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ حِينَ قَرَءُوا بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ ; فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ ; فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute