للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْقَرِيبَةِ. حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ مَرَّ بِسَكْرَانٍ مَطْرُوحٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَقَيَّأَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: بِأَيِّ لِسَانٍ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآفَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَغَسَلَ فَمَهُ؟ فَلَمَّا أَنْ أَفَاقَ السَّكْرَانُ أُخْبِرَ بِمَا فَعَلَهُ فَخَجِلَ وَتَابَ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ:

غَسَلْتَ لِأَجْلِنَا فَمَهُ غَسَلْنَا لِأَجْلِكَ قَلْبَهُ.

(السَّلَامُ) : مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: ذُو السَّلَامَةِ عَنْ عُرُوضِ الْآفَاتِ مُطْلَقًا ذَاتًا وَصِفَةً وَفِعْلًا، فَهُوَ الَّذِي سَلِمَ ذَاتُهُ عَنِ الْعَيْبِ وَالْحُدُوثِ، وَصِفَاتُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَفْعَالُهُ عَنِ الشَّرِّ الْمَحْضِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَالِكُ تَسْلِيمِ الْعَابِدِ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقِيلَ: ذُو السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِنَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: ٥٨] فَيَكُونُ مَرْجِعُهُ إِلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدُّوسِ أَنَّ الْقُدُّوسَ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الشَّيْءِ مِنْ نَقْصٍ يَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ وَيَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ الْقُدُّوسَ طَهَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِالضَّمِّ، وَالسَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى نَزَاهَتِهِ عَنْ نَقْصٍ يَعْتَرِيهِ لِعُرُوضِ آفَةٍ، أَوْ صُدُورِ فِعْلٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قِيلَ: الْقُدُّوسُ فِيمَا لَمْ يَزَلْ، وَالسَّلَامُ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ بِحَيْثُ يَسْلَمُ قَلْبُهُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْخِيَانَةِ وَإِرَادَةِ الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْخَيْرِ فِي ضِمْنِهِ وَجَوَارِحِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْآثَامِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَلِّمًا عَلَى كُلٍّ مَنْ يَرَاهُ عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: السَّلِيمُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ سَلِمَ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَبَرِئَ مِنَ الْعُيُوبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ آدَابِ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَوْلَاهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَ السَّلَامُ مِنَ السَّلَامَةِ كَانَ الْعَارِفُ بِهَذَا الِاسْمِ طَالِبًا لِلسَّلَامَةِ، وَمُتَلَبِّسًا بِالِاسْتِسْلَامِ، لِيَجْمَعَ لَهُ كَمَالَ التَّنْزِيهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، بَلْ يَكُونُ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنَّا قَالَ: هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنِّي طَاعَةً وَأَسْبَقُ مِنِّي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِنْ رَأَى أَصْغَرَ مِنْهُ، قَالَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنِّي مَعْصِيَةً، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ أَخِيهِ مَعْصِيَةٌ طَلَبَ لَهُ سَبْعِينَ مَعْذِرَةً، فَإِنِ اتَّضَحَ لَهُ عُذْرُهُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَيَقُولُ: بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلْ سَبْعِينَ عُذْرًا مِنْ أَخِيكَ.

(الْمُؤْمِنُ) : أَيْ: مَنْ أُمِنَ خُلُقُهُ بِإِفَادَةِ آلَاتِ دَفْعِ الْمَضَارِّ، أَوْ أَمِنَ الْأَبْرَارَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْعَرْضِ، أَوْ أَمِنَ عِبَادَهُ مِنَ الظُّلْمِ، بَلْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ، فَهُوَ مِنَ الْأَمَانِ وَمَرْجِعُهُ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، أَوْ صَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأَسْمَاءِ لَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الذَّوَاتِ، فَيُصْبِحُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُؤْمِنًا، وَلَا تَقْضِي الْمُشَابَهَةُ مُشَابَهَةَ الْعَبْدِ الرَّبَّ اهـ. وَلَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الصِّفَاتِ فَإِنَّ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ بَوْنًا بَيِّنًا، قِيلَ: وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُصَدِّقَ الْحَقَّ وَيَسْعَى فِي تَقْرِيرِهِ، وَيَكُفَّ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالْحَيْفِ، وَيَكُونُ بِحَيْثُ يَأْمَنُ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، وَيَعْتَضِدُونَ بِهِ فِي دَفْعِ الْمَخَاوِفِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ فِي وَعْدِهِ الْمُصَدِّقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَسْكُنْ فِي تَصْدِيقِهِ لِغَيْرِهِ، وَعُطِفَ عَلَى السَّلَامِ لِمَزِيدِ مَعْنَى التَّأْمِينِ عَلَى السَّلَامِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَبُولِ وَالْإِقْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْمُهَيْمِنُ) : أَيِ: الرَّقِيبُ الْمُبَالِغُ فِي الْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ هَيْمَنَ الطَّائِرُ إِذَا نَشَرَ جَنَاحَهُ عَلَى فِرَاخِهِ صِيَانَةً لَهُ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: ٤٨] أَيْ: شَاهِدًا، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَآجَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ مِنَ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مُفَيْعِلٌ مِنَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْأَمِينِ الصَّادِقِ الْوَعْدِ، فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُهَيْمِنُ اسْمٌ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ ثَلَاثَ صِفَاتٍ: الْعِلْمُ مَجَالُ الشَّيْءِ، وَالْقُدْرَةُ الْعَامَّةُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِ، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُقَوِّمَ أَحْوَالَهُ، وَيَحْفَظَ الْقُوَى

<<  <  ج: ص:  >  >>