وَالْجَوَارِحَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ جَنَابِ الْقُدُسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ خَضَعَ تَحْتَ جَلَالِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.
(الْعَزِيزُ) : وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: ٢١] وَقِيلَ: عَدِيمُ الْمِثَالِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُعِزَّ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَهِينَهَا بِالْمَطَالِبِ الدَّنِيَّةِ، وَلَا يُدَنِّسَهَا بِالسُّؤَالِ مِنَ النَّاسِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِمْ، وَيَجْعَلَهَا بِحَيْثُ يَشْتَدُّ إِلَيْهَا احْتِيَاجُ الْعِبَادِ فِي الْإِرْفَاقِ وَالْإِرْشَادِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ الْعِزَّ إِلَّا فِي رَفْعِ الْهِمَّةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَعْرِفُ اللَّهَ عَزِيزًا مَنْ أَعَزَّ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَهَانَ بِأَوَامِرِهِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا بِعِزَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: ٨] .
(الْجَبَّارُ) : بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ بِضَرْبٍ مِنَ الْقَهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِصْلَاحِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ: يَا جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، وَعَلَى الْقَهْرِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا وَرَدَ: لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ، ثُمَّ تَجَوَّزَ بِهِ لِلْعُلُوِّ الْمُسَبَّبِ عَنِ الْقَهْرِ فَقِيلَ لِمَكَّةَ جَبَّارَةٌ فَقِيلَ الْجَبَّارُ هُوَ الْمُصْلِحُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ يُغْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْ فَقْرِهِ، وَيُصْلِحُ عَظْمَهُ مِنْ كَسْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الْمُتَعَالِي عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ كَيْدُ الْكَائِدِينَ، وَأَنْ يَنَالَهُ قَصْدُ الْقَاصِدِينَ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَامِلُ الْعِبَادِ عَلَى مَا أَرَادَ قَهْرًا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَوْ عَلَى مَا أَرَادَ صُدُورَهُ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْبَارِ، فَصَارُوا حَيْثُ أَرَادَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. قِيلَ: وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّفْسِ فَيَجْبُرَ نَقَائِصَهَا بِاسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى مِنَ الرَّذَائِلِ، وَيَكْسِرَ فِيهَا الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ، وَيَرْتَفِعَ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْخَلْقِ فَيَتَخَلَّقُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ بِحَيْثُ لَا يُزَلْزِلُهُ تَعَاوُرُ الْحَوَادِثِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَعَاقُبُ النَّوَازِلِ، بَلْ يَقْوَى عَلَى التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِالْإِرْشَادِ وَالْإِصْلَاحِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الِاسْمُ إِذَا احْتَمَلَ مَعَانِيَ مِمَّا يَصِحُّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى، فَمَنْ دَعَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي فَهُوَ الْجَبَّارُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَزِيزٌ مُتَكَبِّرٌ مُحْسِنٌ إِلَى عِبَادِهِ، لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مُرَادِهِ، مِنْ آدَابِ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي لِعُلُوِّ قُدْرَتِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْهُ إِلَّا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ الْيَوْمَ عِرْفَانُهُ وَغَدًا غُفْرَانُهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ مَا يَأْبَاهُ وَيَكْرَهُهُ تَرَكَ مَا يَهْوَاهُ وَانْقَادَ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ مَوْلَاهُ، فَيَسْتَرِيحُ عَنْ كَدِّ الْفِكْرِ وَتَعَبِ التَّدْبِيرِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: عَبْدِي تُرِيدُ وَأُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ، فَإِنْ رَضِيتَ بِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ اهـ.
وَلِذَا قِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: هَذِهِ إِرَادَةٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، مَا حَاصِلُهُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْعِبَادِ مَنِ ارْتَفَعَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَنَالَ دَرَجَةَ الِاسْتِتْبَاعِ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ بِحَيْثُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ هَيْئَتُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَمُتَابَعَتِهِ فِي سَمْتِهِ وَسِيرَتِهِ، فَيُفِيدُ الْخَلْقَ وَلَا يَسْتَفِيدُ، وَيُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَلَمْ يَكْمُلْ هَذَا الْمَقَامُ إِلَّا لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ: " «لَوْ أَنَّ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» ".
(الْمُتَكَبِّرُ) : أَيْ ذُو الْكِبْرِيَاءِ وَهُوَ الرَّبُّ الْمَلِكُ، أَوْ هُوَ الْمُتَعَالِي عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةُ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَرَى غَيْرَهُ حَقِيرًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَاتِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ نَظَرَ الْمَالِكِ إِلَى عَبْدِهِ وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا لَهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ. هَذَا اللَّفْظُ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَوَضَعَهُ لِلتَّكَلُّفِ فِي إِظْهَارِ مَا لَا يَكُونُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: لَمَّا تَضَمَّنَ التَّكَلُّفَ بِالْفِعْلِ مُبَالَغَةً فِيهِ أُطْلِقُ اللَّفْظُ، وَأُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْمُبَالَغَةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، مَعَ أَنَّ التَّفَعُّلَ جَاءَ لِغَيْرِ التَّكَلُّفِ كَثِيرًا كَالتَّعَمُّمِ وَالتَّقَمُّصِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute