قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ عُلُوَّهُ تَعَالَى وَكِبْرِيَاءَهُ لَازَمَ طَرِيقَ التَّوَاضُعِ، وَسَلَكَ سَبِيلَ التَّذَلُّلِ، وَقَدْ قِيلَ: هَتَكَ سِتْرَهُ مَنْ جَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ: الْفَقِيرُ فِي خَلْقِهِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي جَدِيدِ غَيْرِهِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ عَلَى الْخَدَمِ مِنَ التَّوَاضُعِ بِحَضْرَةِ السَّادَةِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِ وَصَدَقَ فِي حُبِّهِ كَانَ اسْتِلْذَاذُهُ بِمَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْتِلْذَاذِهِ بِعَطَائِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَاهَدْتَ كِبْرِيَاءَهُ تَعَالَى تَكَبَّرْتَ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالسُّكُونِ إِلَى الْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ تُسَاهِمُكَ فِيهَا، بَلْ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ سِرَّكَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَحْقَرْتَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْوُصُولِ إِلَى جَنَابِ الْقُدُسِ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَزَالَتْ عَنْكَ جَمِيعُ دَعَاوَى الْكِبْرِ وَمَهَاوِيهِ، لِصَفَاءِ نَفْسِكَ وَانْطِبَاعِهَا لِلْحَقِّ، حَتَّى سَكَنَ وَهَجُهَا، وَانْمَحَتْ رُسُومُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا اخْتِيَارٌ، وَلَا مَعَ غَيْرِ اللَّهِ قَرَارٌ.
(الْخَالِقُ) : مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: ١٤] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: ١٧] أَيْ تُقَدِّرُونَ كَذِبًا، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِبْدَاعِ، وَإِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: ١٦٤] فَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ أَوْ مُوجِدُهُ مِنْ أَصْلٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ.
(الْبَارِئُ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ، أَيِ: الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ.
(الْمُصَوِّرُ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُبْدِعُ صُوَرِ الْمُخْتَرَعَاتِ وَمُزَيِّنُهَا وَمُرَتِّبُهَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الشَّيْءَ عَلَى هَيْئَةٍ يَتِمُّ بِهَا خَوَاصُّهُ وَأَفْعَالُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ، أَوْ مُوجِدُهُ مَنْ أَصْلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَارِئُهُ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ بِهِ كَلِمَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَاخْتِلَالٍ، وَمُصَوِّرُهُ بِصُورَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ، وَيَتِمُّ بِهِ كَمَالُهُ، وَثَلَاثَتُهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ اهـ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُتَرَادِفَةٌ وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهَا أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَتَصَوَّرَ أَمْرًا إِلَّا وَيَتَأَمَّلُ فِيمَا فِيهِ مِنْ بَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَعَجَائِبِ الصُّنْعِ، وَلِيَتَرَقَّى مِنَ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ، وَيَنْتَقِلَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمَصْنُوعِ إِلَى الصَّانِعِ، حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَلَا عَيْنًا، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ شَيْئًا وَجَعَلَهُ عَيْنًا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَعْجَبَ بِحَالِهِ، وَلَا يَدِلَّ بِأَفْعَالِهِ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَآلِهِ، وَكَيْفَ لَا يَتَوَاضَعُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نُطْفَةٌ، وَفِي الِانْتِهَاءِ جِيفَةٌ، وَفِي الْحَالِ صَرِيعُ جُوعِهِ وَأَسِيرُ شِبَعِهِ، فَفِيهِ مِنَ النَّقَائِصِ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَرَفَ بِهِ جَلَالَ رَبِّهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُتَقَدِّمَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، سِوَى الْجَلَالَةِ، وَكُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى مَعَانِيهَا مَعَ إِفَادَةِ كُلٍّ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى مَا قَبْلَهَا.
وَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، مَعَ زِيَادَةِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ قَالُوا: آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْغَفَّارُ) : أَيِ الَّذِي يَسْتُرُ الْعُيُوبَ وَالذُّنُوبَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْبَالِ السِّتْرِ عَلَيْهَا، وَفِي الْعُقْبَى بِتَرْكِ الْمُعَاتَبَةِ لَهَا، وَهُوَ لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْغَفُورِ، وَقِيلَ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْغَفَّارِ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَفِي الْغَفُورِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَصْلُ الْغَفْرِ السَّتْرُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا هُوَ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَتُلَازِمَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ خُصُوصًا فِي الْأَسْحَارِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: ١١٠] " ثُمَّ " تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَخَى عَمْرَهُ فِي الزَّلَّاتِ، وَأَفْنَى حَيَاتَهُ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَأَبْلَى شَبَابَهُ فِي الْبَطَّالَاتِ، ثُمَّ نَدِمَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَجَدَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَ " مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا " إِخْبَارٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَ " يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ " إِخْبَارٌ عَنِ الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ زَلَّاتُهُمْ حَالَةٌ، وَتَوْبَتُهُمْ قَالَةٌ، وَلَقَدْ سَهَّلَ عَلَيْكَ الْأَمْرَ مَنْ رَضِيَ عَنْكَ بِقَالَةٍ، وَقَدْ عَمِلْتَ مَا عَمِلْتَ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَدْعِي مُجَرَّدَ الْغُفْرَانِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِ: " يَجِدِ اللَّهَ " نَظَرًا إِلَى حَالِ الْمُذْنِبِ كَيْفَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَدَ اللَّهَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute