أَسَأْتُمْ فَلَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ) أَيْ: مِنَ الْمَوْجُودِينَ (وَآخِرَكُمْ) : مِمَّنْ سَيُوجَدُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُكُمْ (وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ) : تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ تَفْصِيلٌ وَتَبْيِينٌ (كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ) أَيْ: لَوْ كُنْتُمْ عَلَى غَايَةِ التَّقْوَى بِأَنْ تَكُونُوا جَمِيعًا عَلَى تَقْوَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: عَلَى تَقْوَى أَتْقَى أَحْوَالِ قَلْبِ رَجُلٍ، أَيْ: كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ لِيَسْتَقِيمَ أَنْ يَقَعَ أَتْقَى خَبَرًا لِكَانَ، ثُمَّ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ كُلَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ هُوَ أَتْقَى النَّاسِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمْعِ بِمَنْزِلَتِهِ لِأَنَّ هَذَا أَبْلَغُ كَقَوْلِكَ: رَكِبُوا فَرَسَهُمْ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: ٧] فِي وَجْهِ إِضَافَةِ أَفْعَلَ إِلَى نَكِرَةٍ مُفْرَدَةٍ تَدُلُّ أَنَّكَ لَوْ تَقَصَّيْتَ قَلْبَ رَجُلٍ مِنْ كُلِّ الْخَلَائِقِ لَمْ تَجِدْ أَتْقَى قَلْبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ. اهـ.
وَلِهَذَا فُسِّرَ بِقَلْبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَلْبُ الْأَشْقَى بِقَلْبِ إِبْلِيسَ. (مَا زَادَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (فِي مُلْكِي شَيْئًا) : إِمَّا مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مَصْدَرٌ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى (لَنْ يَبْلُغُوا) فَفِي (فَتَنْفَعُونِي) نَشْرٌ مُشَوَّشٌ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ، وَلِمُقَارَبَةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُتَوَسِّطِينَ وَيُسَمَّى تَرَقِّيًا وَتَدَلِّيًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} [آل عمران: ١٠٦] الْآيَةَ. (يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ) أَيْ: فُجُورِ أَفْجَرِ، أَوْ عَلَى أَفْجَرِ أَحْوَالِهِمْ (قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ) : بِالتَّخْفِيفِ (ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ (مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ (نَقَصَ) مُتَعَدٍّ، وَمَفْعُولًا مُطْلَقًا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَازِمٌ أَيْ نَقَصَ نُقْصَانًا قَلِيلًا، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَدَلَهُ: (جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَنْ يَبْلُغُوا ضُرِّي فَيَضُرُّونِي، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: (نَقَصَ) مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي الْأَفْصَحِ، وَ (شِيئًا) مَفْعُولُهُ الثَّانِي نَحْوُ: لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا. اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَفْعُولٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ (شَيْئًا) مَفْعُولَهُ الثَّانِي، وَلَعَلَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ خَطَأٌ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فَاعِلُ نَقَصَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعَيَّنَ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ (شَيْئًا) فِيهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَيْ: شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ: شَيْئًا مِنْ شُرُوطِ الْعَهْدِ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ كَوْنُ (يَنْقُصُوكُمْ) مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ: لَمْ يَنْقُصُوا مِنْكُمْ أَيْ مِنْ عُهُودِكُمْ شَيْئًا. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْجُمْهُورُ بِالصَّادِ، وَقُرِئَ بِالضَّادِ أَيْ: عُهُودُكُمْ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَ (شَيْئًا) فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ، وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا) أَيْ: وَقَفُوا أَوِ اسْتَمَرُّوا (فِي صَعِيدٍ) أَيْ: مَقَامٍ (وَاحِدٍ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الصَّعِيدُ يُطْلَقُ عَلَى التُّرَابِ وَعَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. قُلْتُ: فَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا مُطَابَقَةً لِمَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ بَعْضَهُمَا يُفَسِّرُ بَعْضًا (فَسَأَلُونِي) أَيْ: كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَيَّدَ السُّؤَالَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ تَزَاحُمَ السُّؤَالِ وَازْدِحَامَهُمْ مِمَّا يُدْهِشُ الْمَسْئُولَ وَيُهِمُّ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ إِنْجَاحُ مَآرِبِهِمْ وَإِسْعَافُ مَطَالِبِهِمْ، (فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ) أَيْ: فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَفِي مَكَانٍ وَاحِدٍ (مَا نَقَصَ ذَلِكَ) أَيِ: الْإِعْطَاءُ (مِمَّا عِنْدِي) : قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: ٢١] (إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ) أَيْ: كَالنَّقْصِ أَوِ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْقُصُهُ (الْمِخْيَطُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيِ: الْإِبْرَةُ (إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْإِدْخَالِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا يَنْقُصُهُ الْمِخْيَطُ مَحْسُوسًا وَلَا مُعْتَدًّا بِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، بَلْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ كَانَ أَقْرَبَ الْمَحْسُوسَاتِ وَأَشْبَهَهَا بِإِعْطَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ كَافَّةً، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ يُقَالُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، يَعْنِي لَوْ فُرِضَ النَّقْصُ فِي مُلْكِ اللَّهِ لَكَانَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ (يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ) أَيِ: الْقِصَّةُ (أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا) أَيْ: أَحْفَظُهَا وَأَكْتُبُهَا (عَلَيْكُمْ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِلَفْظِ: عَلَيْكُمْ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute