عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْمُولُ أَوْصَى عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَدْ تَنَازَعَا فِيهِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ. اهـ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَفِي رِوَايَةٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَوْصَى) بِنْيَةُ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هَكَذَا: رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ قَطُّ خَيْرًا لِأَهْلِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَخْ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ ابْتِدَاءُ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ: أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَكْثَرَ مِنَ الذُّنُوبِ. اهـ، ثُمَّ الْأَصْلُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي. وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدَّمَ مَا غَابَ بِهِ عَنْ مَرَاتِبِ السُّعَدَاءِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فِي مَذْهَبِ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ حُكِيَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي ثُمَّ لْيَذْرُوا نِصْفِي، وَلَوْ نَقَلَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَقَالَ: إِذَا مَاتَ فَلْيَحْرِقْهُ قَوْمُهُ ثُمَّ لْيَذْرُوا، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَائِبِ تَحَاشِيًا عَنْ وَصْمَةِ نِسْبَةِ التَّحْرِيفِ وَتَوَهُّمِ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى نَفْسِهِ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَلَامِي أَوْلَى مِمَّا قِيلَ عَدَلَ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذَا الْعُدُولَ لَا يَمْنَعُ إِيهَامَ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَفْلَةٌ وَذُهُولٌ عَنْ أَنَّ الْعُدُولَ وَقَعَ عَنْ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ إِلَى قَوْلِهِ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الطِّيبِيُّ تَحَامِيًا أَيْضًا (ثُمَّ اذْرُوا) هَمْزَةُ وَصْلٍ مِنَ الذَّرْيِ: بِمَعْنَى التَّذْرِيَةِ، وَيَجُوزُ قَطْعُهَا يُقَالُ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَأَذْرَتْهُ: إِذَا أَطَارَتْهُ، أَيْ: فَرِّقُوا (نِصْفَهُ) أَيْ نِصْفَ رَمَادِهِ إِلَى الْبَرِّ (وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ) اللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ (قَدَرَ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: ضَيَّقَ (اللَّهُ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيَّ، وَاعْتَمَدَهَا النَّوَوِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ مِنْ بَعْضِ الْكُتَّابِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحْرِيفُ الْكِتَابِ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ قَوْلُهُ (لَيُعَذِّبَنَّهُ) إِذْ لَمْ يُعْهَدِ الِالْتِفَافُ بَيْنَ أَجْزَاءِ جُمْلَتِي الشَّرْطِيَّةِ وَالْقَسَمِيَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ دَهِشًا (عَذَابًا) أَيْ تَعْذِيبًا (لَا يُعَذِّبُهُ) أَيِ ذَلِكَ الْعَذَابَ (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قِيلَ مَعْنَاهُ لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ مِنَ الْقَدْرِ بِمَعْنَى التَّضْيِيقِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْقَدْرِ كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (خَشْيَتُكَ) وَغَفَرَ لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَخْشَاهُ وَلَا يُغْفَرُ لَهُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ (قَدَرَ) بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى ضِيَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: ٧] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: ٨٧] وَالثَّانِي لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ أَيْ: قَضَاهُ مِنْ قَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ; وَلَكِنْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ أَيْ: أَفُوتُهُ، وَهَذَا يُنْبِئُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّمَنُّعَ بِالتَّحْرِيقِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِغُفْرَانِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُمْكِنُ الْقَوْلُ مَعَهُ بِإِيمَانِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا الصَّنِيعَ تُرِكَ، فَلَمْ يُنْشَرْ وَلَمْ يُعَذَّبْ، وَأَمَّا تَلَفُّظُهُ بِقَوْلِهِ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ، وَبِقَوْلِهِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِثْلِهِ هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْجَاحِدِ لِلصِّفَةِ، وَقِيلَ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّشَكُّكِ فِيمَا لَا يُشَكُّ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ بِتَجَاهُلِ الْعَارِفِ كَقَوْلِهِ {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: ٨٧] الْآيَةَ. وَقِيلَ لَقِيَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ مَا أَدْهَشَهُ وَسَلَبَ عَقْلَهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمْهِيدِ الْقَوْلِ وَتَخْمِيرِهِ ; فَبَادَرَ بِسَقْطٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجًا لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِيقَتَهُ، وَهَذَا أَسْلَمُ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ كَلَامٌ صَدَرَ عَنْ غَلَبَةِ حَيْرَةٍ وَدَهْشَةٍ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ فِي كَلَامِهِ كَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي فَلَا يُؤَاخَذُ فِيمَا قَالَ، أَقُولُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ ذَلِكَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ، وَنَحْوَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ وَاجِدِ الضَّالَّةِ (أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ نَصٌّ إِذْ قَوْلُ الْوَاجِدِ وَقَعَ سَهْوًا وَخَطَأً بِخِلَافِ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَقِيسًا، وَقِيلَ إِنْكَارُ وَصْفٍ وَاحِدٍ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِمَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ كُفْرًا، قُلْتُ: جَهْلُ وَصْفٍ وَاحِدٍ عُذْرٌ عِنْدَ بَعْضٍ لَا إِنْكَارُهُ، وَبَوْنٌ بَيْنَ الْإِنْكَارِ لِلشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ جَاهِلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَمِمَّنْ كَفَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُكَفَّرُ بِهِ بِخِلَافِ جَحْدِهَا، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ اعْتِقَادًا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ وَيَرَاهُ دِينًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَتَهُ حَقٌّ، وَقَالُوا لَوْ سُئِلَ النَّاسُ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute