الصِّفَاتِ لَوُجِدَ الْعَارِفُ بِهَا قَلِيلًا، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ بَدِيعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ، وَيُسَمَّى مَزْجَ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ، وَالْمُرَادُ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: ٩٤] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُقَرِّرَهُ عِنْدَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشُكَّ فِيهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا قَالَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ ثَبَاتٍ وَرُسُوخِ قَدَمٍ فِيهِ، كَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَنْشُرَهُ وَيَبْعَثَهُ وَيُعَذِّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي) فَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّضَ الْقَوْمَ عَلَى إِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ ; فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ التَّشْكِيكِ لَهُمْ لِئَلَّا يَتَهَاوَنُوا فِي وَصِيَّتِهِ فَيَقُومُوا بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مَبْنِيًّا عَلَى فَرْضِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ شَكٌّ فِي وُقُوعِهِ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ "، وَالْحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ مَعْصُومٍ خِطَابًا لِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَلَا تَأْيِيدَ لِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ مُبَايِنٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا مُوهِمَةٌ، نَعَمْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَحْتَاجُ كَلَامُهُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَإِنَّ أَحْسَنَ التَّأْوِيلِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: ٨٧] وَرِوَايَةُ (أُضِلُّ اللَّهَ) تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى: أُضَيِّعُ طَاعَتَهُ، وَ (لَعَلَّ) لِلْإِشْفَاقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: " مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ " لَا أَنَّهُ لِلتَّرَجِّي كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ وَأَشْكَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوا الْكُفْرَ إِلَيْهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَلَا مَحْظُورَ لَدَيْهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ فِي زَمَانِ فَتْرَةٍ حِينَ يَنْفَعُ مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيفٌ، وَالتَّوْحِيدُ مُتَحَقِّقٌ فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ بِتَوْحِيدٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ (فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا) أَيْ أَهْلُهُ أَوْ بَنُوهُ (مَا أَمَرَهُمْ) مِنَ التَّحْرِيقِ وَالتَّذْرِيَةِ (فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَاءِ الرَّجُلِ ; إِظْهَارًا لِلْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّامِلَةِ (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا) أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَصِيَّةِ (قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ) قِيلَ: إِنَّمَا وَصَّى بِذَلِكَ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ وَعُقُوبَةً لَهَا بِعِصْيَانِهَا رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيَغْفِرَ لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ: (لَئِنْ قَدَرَ) بِمَعْنَى ضَيَّقَ ; فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّ تَحْقِيرَ النَّفْسِ لَا يُبِيحُ مِثْلَ ذَلِكَ (فَغَفَرَ لَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَجَدَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ مَا فُعِلَ ; فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ أَعْبَاءَ ذَنْبِهِ ; لَعَذَّبَهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، أَوْ لَئِنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ لَعَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَفِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنِ السِّبَاقِ وَاللِّحَاقِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ الرَّجُلِ يَأْبَاهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَوَاللَّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْمُرَادُ لَئِنْ بَعَثَنِي، وَإِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، أَوْ إِنْ عَلَى حَدِّ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٧٥] فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ اللَّامَ الْمُوطِئَةَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ لِلْقَسَمِ، وَيَسُدُّ مَسَدَّ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَةِ الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ، ثُمَّ أَغْرَبَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ " فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ " أَيْ: أَغِيبُ عَنْهُ، قِيلَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَمُّدِهِ لِحَقِيقَةِ مَدْلُولِ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. اهـ، وَيُرَدُّ بِمَنْعِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّهِشَ يَتَخَيَّلُ غَيْرَ الْوَاقِعِ كَثِيرًا. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ ; بَلْ دَلِيلٌ عَلَى تَحَقُّقِهِ، وَدَلَالَتُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ عُذْرًا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَا مَنْعًا، فَإِنْ قُلْتَ تُعَارِضُ رِوَايَةُ " لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ " رِوَايَةَ " وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي " قُلْتُ: هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ وَبِفَرْضِ صِحَّتِهَا فَيُجْمَعُ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْصَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً كَانَ فِيهَا ثَابِتَ الْعَقْلِ، وَأُخْرَى مَدْهُوشَ الْعَقْلِ مَذْهُوبَ الْقَلْبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute