وَنَأَى بِي الشَّجَرُ أَيْ: بَعُدَ الْمَرْعَى وَالشَّجَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: بِغَيْضَةٍ هِيَ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِكَثْرَتِهِ ; فَمَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْغَيْضَةَ هِيَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَلِمَا كَانَتِ الْبَيَانِيَّةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِيَ عَامٌّ، أَوْرَدَ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لَيْسَتِ الْغَيْضَةُ اسْمًا لِمُطْلَقِ الشَّجَرِ بَلْ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ فَلَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، قُلْتُ: تَنْوِينُهَا لِلتَّنْكِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَغِيضَةٌ وَهِيَ شَجَرٌ كَبِيرٌ وَمَنْ لَازَمَهُ الِالْتِفَافُ غَالِبًا اهـ وَقَوْلُهُ: لِلتَّنْكِيرِ صَوَابُهُ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى مَا ادَّعَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَعَ هَذَا قَيْدُ الْغَالِبِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ الْبَيَانِيَّةَ بَلْ بِدُونِهَا أَيْضًا، كَمَا حُقِّقَ فِي خَاتَمِ فِضَّةٍ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالصَّوَابُ مَا اخْتَرْنَاهُ مُطَابِقًا لِلْقَامُوسِ أَنَّ الْغَيْضَةَ بِالْفَتْحِ: الْأَجَمَةُ وَمُجْتَمَعُ الشَّجَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ النِّهَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرِ الْجِنْسُ، وَبِالْمُلْتَفِّ أَنْ يَلْتَفَّ بَعْضُ الْأَشْجَارِ إِلَى بَعْضِهَا لَا الْمُفْرَدُ الْمُعَيَّنُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُ أَغْصَانِهِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْغَيْضَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَوْضِعٍ تَكْثُرُ فِيهِ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ (فَسَمِعْتُ فِيهَا) أَيْ: فِي الْغَيْضَةِ (أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لِلْفَرْخِ وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ، وَجَمْعُهُ لِلْقِلَّةِ أَفْرَاخٌ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثِ إِمَّا اتِّسَاعًا أَوِ اسْتِعْمَالًا لِكُلٍّ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: ٢٢٨] " وَإِمَّا إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْقِلَّةَ كَانَتْ خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ، وَبَالِغَةً إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الضَّمَائِرُ الْمُتَعَاقِبَةُ فِي قَوْلِهِ (فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ) كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَاسْتَدَارَتْ) أَيْ: دَارَتْ (عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ) أَيْ: فَرَفَعْتُ الْكِسَاءَ عَنْ وَجْهِ الْفِرَاخِ لِأَجْلِ أُمِّهِنَّ حَتَّى رَأَتْهُنَّ (فَوَقَعَتْ) أَيْ: نَزَلَتْ وَسَقَطَتْ (عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ) أَيْ: جَمِيعَهُنَّ (بِكِسَائِي، فَهُنَّ) أَيْ: عَنْهُنَّ وَأُمُّهُنَّ (أُولَاءِ) اسْمُ إِشَارَةٍ (مَعِي) أَيْ: تَحْتَ كِسَائِي (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ضَعْهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ) أَيْ: وَكَشَفْتُ عَنْهُنَّ وَعَنْ أُمِّهِنَّ (وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ) أَيِ: امْتَنَعَتْ (إِلَّا لُزُومَهُنَّ) أَيْ: عَدَمَ مُفَارَقَتِهِنَّ، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرِغٌ لِمَا فِي (أَبَتْ) مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: مَا فَارَقَتْهُنَّ بَعْدَ كَشْفِ الْكِسَاءِ بَلْ ثَبَتَتْ مَعَهُنَّ مِنْ غَايَةِ رَحْمَتِهَا بِهِنَّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ) أَيْ: لِشَفَقَتِهَا. وَالرُّحْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ كَالرَّحْمَةِ، وَيَجُوزُ تَحْرِيكُ الْحَاءِ بِالضَّمِّ مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ، وَقَوْلُهُ (فِرَاخَهَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِفِرَاخِهَا (فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا) لِأَنَّ رَحْمَتَهُ حَقِيقِيَّةٌ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، وَرَحْمَتَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ (ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ) (مِنْ) بِمَعْنَى: (فِي) نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: ٩] وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ أَيْ: حَتَّى تَجْعَلَ ابْتِدَاءَ وَضْعِهِنَّ مَكَانًا أَخَذْتَهُنَّ مِنْهُ بِأَنْ لَا تَضَعَهُنَّ مَكَانًا آخَرَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَرَجَعَ بِهِنَّ) أَيْ: وَوَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذَهُنَّ مَعَ أُمِّهِنَّ لِأُلْفَتِهِنَّ بِمَكَانِهِنَّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute