للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ وَشَاءَهُ وَلَا يُقَالُ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ بَلْ يُقَالُ كَرِهَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثِيبُ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ قَهْرًا كَسَائِرِ مَكْرُوهَاتِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَكْرُوهُ عَلَيْهِ قَهْرًا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِ دَفَعَهُ، وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا رَضِيَ اللَّهُ لَعَبْدٍ ضَلَالَةً وَلَا أَمَرَهُ بِهَا وَلَا دَعَاهُ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى الْكُفْرَ لِلْكَافِرِينَ كَمَا يَرْضَى الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا) مَفْعُولٌ لِهَوِّنْ أَوْ ظَرْفُهُ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا فِي سَفَرِنَا (هَذَا) أَيْ: بِالْخُصُوصِ لِأَنَّ الصُّوفِيَّ ابْنُ الْوَقْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى السَّفَرِ الظَّاهِرِيِّ وَفِي الْبَاطِنِ إِيمَاءً إِلَى السَّيْرِ الْبَاطِنِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ) وَأَشَارَ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ: قَرِيبًا غَرِيبًا، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِكَائِنٍ بَائِنٍ وَعَرِشٍ فَرِشٍ وَلَاهُوتِيٍّ نَاسُوتِيٍّ (وَاطْوِ لَنَا بُعْدَهُ) أَمْرٌ مِنَ الطَّيِّ أَيْ: قَرِّبْ لَنَا بُعْدَ هَذَا السَّفَرِ وَاجْعَلْ هَذَا السَّفَرَ مَقْضِيَّ الْوَطَرِ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى طَيِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاللِّسَانِ عَلَى مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، اطْوِ لَنَا بُعْدَهُ حَقِيقَةً إِذْ وَرَدَ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطْوُونَ الْأَرْضَ لِلْمُسَافِرِ كَمَا تُطْوَى الْقَرَاطِيسُ، أَوِ الْمُرَادُ: خَفِّفْ عَلَيْنَا مَشَاقَّهُ (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ) أَيِ: الْمُحَافِظُ وَالْمُعِينُ، وَالصَّاحِبُ فِي الْأَصْلِ الْمُلَازِمُ، وَالْمُرَادُ مُصَاحَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ عَنْ كُلِّ مُصَاحِبٍ سِوَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: أَنَا يَدُكَ اللَّازِمُ فَلَازِمْ يَدَكَ (وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) الْخَلِيفَةُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ أَحَدٍ فِي إِصْلَاحِ أَمْرِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتَ الَّذِي أَرْجُوهُ وَأَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي بِأَنْ يَكُونَ مُعِينِي وَحَافِظِي، وَفِي غَيْبَتِي عَنْ أَهْلِي أَنْ تَلُمَّ شَعَثَهُمْ وَتُدَاوِيَ سُقْمَهُمْ وَتَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: مَشَقَّتِهِ وَشِدَّتِهِ (وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ) بِالْمَدِّ أَيْ: سُوءِ الْحَالِ وَتَغَيُّرِ النَّفْسِ فِي النِّهَايَةِ لِكَآبَةٍ تُغَيُّرُ النَّفْسَ بِالِانْكِسَارِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالْمَنْظَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْ: مِنْ تَغَيُّرِ الْوَجْهِ بِنَحْوِ مَرَضٍ وَالنَّفْسِ بِالِانْكِسَارِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا فِيمَا يُحِبُّهُ مِمَّا يُورِثُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَنْظِرُ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ، وَيَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْظَرَ وَالْمَنْظَرَةَ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ أَوْ سَاءَكَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْكَسْرِ فِي اللَّفْظِ وَعَمَّمَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: مِنْ سُوءِ الرُّجُوعِ بِأَنْ يُصِيبَنَا حَزْنٌ أَوْ مَرَضٌ (فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ) مِثْلَ أَنْ يَعُودَ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَةِ أَوْ لِنَائِبَةٍ أَصَابَتْهُ فِي النَّفْسِ كَمَرَضٍ أَوِ الْمَالِ كَسَرِقَةِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْأَهْلُ أَيِ: الزَّوْجَةُ وَالْخَدَمُ وَالْأَقَارِبُ كَمَرَضِ أَحَدِهِمْ أَوْ فَقْدِهِ، وَفِي الْفَائِقِ: كَآبَةُ الْمُنْقَلَبِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى وَطَنِهِ فَيَلْقَى مَا يَكْتَئِبُ مِنْهُ مِنْ أَمْرٍ أَصَابَهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ فِيمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ (وَإِذَا رَجَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرِهِ (قَالَهُنَّ) أَيِ: الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلَ الْمَذْكُورَاتِ وَهِيَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِلَخْ (وَزَادَ فِيهِنَّ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهِنَّ بِأَنْ قَالَ بِعْدَهُنَّ (آئِبُونَ) هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، اسْمُ فِعْلٍ مِنْ آبَ يَئُوبُ إِذَا رَجَعَ أَيْ: رَاجِعُونَ مِنَ السَّفَرِ بِالسَّلَامَةِ إِلَى أَوْطَانِنَا، أَوْ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ (تَائِبُونَ) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ نَحْنُ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَقَصْدِ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي تَائِبُونَ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: (عَابِدُونَ) وَقَوْلِهِ: وَكَذَا عَابِدُونَ أَيْ: وُفِّقْنَا فِي رُجُوعِنَا هَذَا لِلْعِبَادَةِ - تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (لِرَبِّنَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَابِدُونَ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ (حَامِدُونَ) وَيُحْتَمَلُ التَّنَازُعُ أَيْ: مُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّنَا شَاكِرُونَ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِرَبِّنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ عَابِدُونَ لِأَنَّ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ ضَعِيفٌ فَيَقْوَى بِهِ أَوْ بِحَامِدُونَ لِيُفِيدَ التَّخْصِيصَ أَيْ: نَحْمَدُ رَبَّنَا لَا نَحْمَدُ غَيْرَهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْخَاتِمَةِ لِلدُّعَاءِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَنَاقَضَ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: هُنَا لِرَبِّنَا لَا غَيْرِهِ حَامِدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ اهـ. وَفِيهِ خَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ حَامِدُونَ لَيْسَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِرَبِّنَا مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَمَا تَوَهَّمَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِرَبِّنَا لَا لِغَيْرِهِ رُدَّ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (تَائِبُونَ) وَمَا بَعْدَهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ نَحْنُ بِحَذْفِ الْعَاطِفِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالِي: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ - فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: ١٤ - ١٦] وَهَذِهِ اللَّامُ نَظِيرُهَا إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الْحَدِيثِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَأُخِّرَتْ فِي الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى - وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي لِرَبِّنَا أَوْلَى وَأَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيقِ بِعَابِدُونَ لِأَنَّ خَاتِمَةَ الدُّعَاءِ بِالْحَمْدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَتَعْلِيقُهُ بِعَابِدُونَ بَعِيدٌ عَنِ السِّيَاقِ اهـ. وَوَجْهُ التَّعَجُّبِ أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ قَرَّرَهُ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ الطِّيبِيِّ فَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبٍ مَا حَصَّلَ فِيهِ إِلَّا التَّعَبَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>