وَقَالَ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ، وَلَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ نَظِيرُ: " مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ " وَالتَّقْدِيرُ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ؟ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ جَوَابُهُ بِقُلْتُ: بَلَى، وَفِي قَوْلِ الطِّيبِيِّ إِيهَامٌ أَنَّ (لَا) أَصِيلَةٌ وَلَيْسَ مُرَادًا اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ (لَا) أَصْلِيَّةٌ وَلِذَا أَعَادَهَا حَيْثُ قَالَ: أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَكَانَ مُرَادًا لِلْمُشَارَكَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَغَايَتُهُ أَنَّ (لَا) الثَّانِيَةَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَمَّا فِي تَقْدِيرِهِ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ (لَا) مُؤَكِّدَةً وَكَذَا فِيمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ النَّظِيرُ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الْآيَةِ أَيْ: أَنْ يَسْجُدَ كَمَا فِي (صاد) وَلَا صِلَةَ مِثْلَهَا فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ مُؤَكِّدَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ (لَا) هِيَ النَّافِيَةُ فَإِذَا كَانَتْ زَائِدَةً كَيْفَ يُؤَكَّدُ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ (كَلَامًا) : أَيْ: دُعَاءً (" إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ ") : أَيْ: جِنْسَهُمَا (قَالَ: قُلْتُ: بَلَى) .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ قَالَ: قَالَ: بَلَى: لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، بَلْ شَاهَدَ الْحَالَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ، وَيُقَالَ: تَقْدِيرُهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ. قَالَ لِي رَجُلٌ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي. (قَالَ: " قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الدَّوَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ٦٢] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمُّ فِي الْمُتَوَقَّعِ وَالْحُزْنُ فِيمَا فَاتَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: لَيْسَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، بَلِ الْهَمُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ، وَالْحُزْنُ فِيمَا قَدْ وَقَعَ، أَوِ الْهَمُّ هُوَ الْحُزْنُ الَّذِي يُذِيبُ الْإِنْسَانَ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْحُزْنِ، وَهُوَ خُشُونَةٌ فِي النَّفْسِ لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْغَمِّ فَافْتَرَقَا مَعْنًى، وَقِيلَ: الْهَمُّ الْكَرْبُ يَنْشَأُ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ، وَالْغَمُّ مِمَّا يَحْدَثُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ، وَالْحُزْنُ مَا يَحْصُلُ لِفَقْدِ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ فَقْدُهُ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ") : هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، وَأَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجُزِ وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدْرَةِ وَاشْتُهِرَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَعَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ وَالْمِحْنَةِ، (" وَالْكَسَلِ ") : أَيِ: التَّثَاقُلِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِعَادَةُ أَعُوذُ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا يَلِيقُ بِالِاسْتِعَاذَةِ اسْتِقْلَالًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ") : بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَبِفَتْحِهِمَا، وَهُوَ تَرْكُ أَدَاةِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَبَاقِي الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَرَدِّ السَّائِلِ وَتَرْكِ الضِّيَافَةِ، وَمَنْعِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" وَالْجُبْنِ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ وَهُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ عَدَمُ الْجَرَاءَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ عَدَمُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ سُكُونُ الْبَاءِ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَاءَ بِضَمَّتَيْنِ أَيْضًا (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ ") : أَيْ: كَثْرَتِهِ وَهِيَ أَنْ يَفْدَحَهُ الدَّيْنُ وَيُثْقِلَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ ضَلَعُ الدَّيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ: ثِقْلُهُ الَّذِي يَمِيلُ صَاحِبُهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَالضَّلَعُ بِالتَّحْرِيكِ الِاعْوِجَاجُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ (الدَّيْنُ ضَلَعُ الدِّينِ) وَفِي رِوَايَةٍ، (الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ) . (" وَقَهْرُ الرِّجَالِ ") : أَيْ: غَلَبَتُهُمْ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ هَيَجَانَ النَّفْسِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مِنْ غَلَبَةِ النَّفْسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَهْرِ الْغَلَبَةُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: قَهْرُ الرِّجَالِ هُوَ جَوْرُ السُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجَالِ الدَّائِنُونَ. اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الدَّائِنِينَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْأَدَاءِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ مُشْتَمَلِ الدُّعَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُبْنِ يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ الْهَمِّ، وَالْآخَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: غَلَبَةِ الرِّجَالِ إِمَّا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قَهْرِ الدَّائِنِينَ إِيَّاهُ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّقَاضِي، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْضِي، أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ بِأَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ يُعَاوِنُهُ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْ رِجَالٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُزَكِّي عَلَيْهِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute