للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْفَصْلُ الثَّانِي

٢٤٨٨ - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ: رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي شَاكِرًا لَكَ، ذَاكِرًا لَكَ، رَاهِبًا لَكَ، مِطْوَاعًا لَكَ، مُخْبِتًا إِلَيْكَ، أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

٢٤٨٨ - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ، (رَبِّ أَعِنِّي) أَيْ وَفِّقْنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، (وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ) أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ طَاعَتِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، (وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ) أَيِ أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلَا تُغْلِبْهُمْ عَلَيَّ أَوِ انْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي وَلَا تَنْصُرِ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى، (وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ، وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّايَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ١٨٢] يُظْهِرُ لَهُمُ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ وَغِرَّةٍ وَيُمِيتُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ، (وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ أَوْ عَلَى عُيُوبِ نَفْسِي، (وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ لِي حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ، (وَانْصُرْنِي) أَيْ بِالْخُصُوصِ، (عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ قَالَ تَأْكِيدٌ لِأَعِنِّي إِلَخْ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنِي فِي الْأَوَّلِ، (رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ) قُدِّمَ الْمُتَعَلِّقِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ، (شَاكِرًا) أَيْ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ (لَكَ ذَاكِرًا) فِي الْأَوْقَاتِ وَالْآنَاءِ (لَكَ رَاهِبًا) أَيْ خَائِفًا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِي الْحِصْنِ لَكَ شَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ الْأَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَأَمَّا مَعْنَى الْعِبَارَةِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُرَادُ الصُّوفِيَّةِ بِالِانْقِطَاعِ إِنَّمَا هُوَ انْصِرَافُ الْهِمَّةِ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقُ بِالْحَقِّ وَهَذَا تَارَةً يَصْدُرُ وَيَنْشَأُ مِنْ غَايَةِ الرَّهْبَةِ وَتَارَةً يَصْدُرُ مِنْ غَايَةِ الرَّغْبَةِ.

وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْعُزْلَةَ بِوَصْفٍ مِنْ جِهَةِ الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ أَفْضَلُ مِنْ حُصُولِ الْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَهُمْ مَقَامٌ فَوْقَ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ قَوْمٍ فِي مِنْهَاجِ مَذْهَبِهِمْ، وَمَرْتَبَةُ الْجَامِعِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ هِيَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْحَالَاتِ السَّنِّيَّةِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّعَوَاتُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّضَرُّعَاتُ الْبَهِيَّةُ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ التَّجَلِّيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، (لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مُطِيعًا أَيْ مُنْقَادًا، (لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ أَخْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَ الْخَبْتَ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَبْتُ اسْتِعْمَالَ اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: ٢٣] أَيِ اطْمَأَنُّوا إِلَى ذِكْرِهِ أَوْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى أَمْرِهِ، وَأُقِيمَ اللَّامُ مَقَامَ إِلَى لِتُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: ٣٤ - ٣٥] (إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ: أَوَّهْ، أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوَّهْ، وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ، أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ، أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ (مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا، قِيلَ: التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: ٧٥] اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>