للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) يَجْعَلُهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: ٢٥] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَكُونُ نَصُوحًا فَلَا أَنْكُثُهَا أَبَدًا فَمُوهِمٌ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّصُوحِ عَدَمُ النِّكْثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: ٨] بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ بَالِغَةً فِي النُّصْحِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ يَنْصَحُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ وُصِفَتْ بِهِ التَّوْبَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النُّصْحِ، وَتَقْدِيرُهُ ذَاتَ نُصُوحٍ أَوْ تَنْصَحُ نُصْحًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَفُسِّرَ نَصُوحًا بِصَادِقَةٍ وَخَالِصَةٍ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصُوحِ تَائِبٌ مَشْهُورٌ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ إِجْمَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ لَا عَدَمِ النِّكْثِ عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ حُسْنُ خَاتِمَتِهِ وَمَآلِهِ (وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَضُمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي قِيلَ هِيَ مَصْدَرُ حُبْتُ أَيْ أَثِمْتُ، تَحَوَّبَ حُوبَةً وَحُوبًا وَحَابَةً وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ، وَالْحَابُ الْإِثْمُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَزْجُورًا عَنْهُ، إِذِ الْحُوبُ فِي الْأَصْلِ لِزَجْرِ الْإِبِلِ، وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ دُونَ الِاسْمِ وَهُوَ الْحُوبُ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ فِعْلِ الذَّنْبِ أَبْلَغُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الذَّنْبِ كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ " {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: ٢] " ثُمَّ ذَكَرَ الْغَسْلَ لِيُفِيدَ إِزَالَتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّنَزُّهُ وَالتَّقَصِّي عَنْهُ كَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْقَذِرِ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَاوَرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ أَزِلْ آثَامِي بِتَبْدِيلِهَا حَسَنَاتٍ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ اللُّغَةِ وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، (وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ ذُكِرَ لِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدَ قَبُولُ التَّوْبَةِ فَمُوهِمٌ أَنَّهُ لَا تُجَابُ دَعْوَةُ غَيْرِ التَّائِبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، (وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى أَوْ ثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ، (وَسَدِّدْ) أَيْ صَوِّبْ وَقَوِّمْ، (لِسَانِي) حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ، (وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّي، (وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ (سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وَنَحْوَهَا، مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الصَّدْرِ وَيَسْكُنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَلْبِي بَدَلَ صَدْرِي قِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغَنُ وَالْحِقْدُ مِنَ السُّخْمَةِ وَهُوَ السَّوَادُ وَمِنْهُ سُخَامُ الْقِدْرِ وَقِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغِينَةُ وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ مَبْدَأَهَا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ فِي الصَّدْرِ، وَسَلُّهَا إِخْرَاجُهَا وَتَنْقِيَةُ الصَّدْرِ مِنْهَا مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ الْعَاطِفِ فِي قَوْلِهِ رَبِّ اجْعَلْنِي إِلَى مُنِيبًا وَفِي الْإِتْيَانِ بِهِ فِي الْقَرَائِنِ اللَّاحِقَةِ قُلْتُ: أَمَّا التُّرْكُ فَلِلتَّعْدَادِ وَالْإِحْصَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِلَّهِ غَيْرَ مَعْدُودٍ وَلَا دَاخِلٍ تَحْتَ مَحْدُودٍ فَيَنْعَطِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلِذَا قَدَّمَ الصِّلَةَ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْعَاطِفِ فِيمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَلِانْضِبَاطِهِ اهـ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ تَأَمُّلِهِ وَإِنْ قَالَ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِتَأَمُّلِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ الْجَزَرِيُّ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>