أَيْ لَا تُصِبْنَا بِمَا يُنْقِصُ دِينَنَا مِنِ اعْتِقَادِ السُّوءِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالْفَتْرَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، (وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا) أَيْ لَا تَجْعَلْ طَلَبَ الْمَالِ وَالْجَاهِ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا، بَلِ اجْعَلْ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا مَصْرُوفًا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْهَمِّ فِيمَا لَابُدَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ مُرَخَّصٌ فِيهِ ; بَلْ مُسْتَحَبٌّ ; بَلْ وَاجِبٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَخَرَجَ بِأَكْبَرَ مَا لَوْ سَاوَى هَمَّ الْخَيْرِ وَهَمَّ الدُّنْيَا، أَوْ نَقُصَ الثَّانِي إِذْ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يُنَاسِبُ الدُّعَاءَ سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْحَالَةِ الْقَوِيَّةِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ وَتَعْلِيمِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ فِي الْأُمُورِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ حَيْثُ تَرَجَّحَ وَتَعَبَّثَ، كَلَامُ الطِّيبِيِّ تَبَجُّحٌ، (وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا) أَيْ غَايَةَ عِلْمِنَا، أَيْ تَجْعَلْنَا حَيْثُ لَا نَعْلَمُ وَلَا نَتَفَكَّرُ إِلَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلِ اجْعَلْنَا مُتَفَكِّرِينَ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، مُتَفَحِّصِينَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَبْلَغُ الْغَايَةُ الَّتِي يَبْلُغُهُ الْمَاشِي وَالْمُحَاسَبُ فَيَقِفُ عِنْدَهُ قَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: ٢٩ - ٣٠] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧] وَفِي الْحَدِيثِ مَدْحُ مَنْ يَكُونُ بِعَكْسِ حَالِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ ; أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَالِمُونَ مُوقِنُونَ، (وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا) أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، أَوْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ، أَوْ مِنَ السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ لَا تَجْعَلْنَا مَغْلُوبِينَ لِلْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ، وَلَا تَجْعَلِ الظَّالِمِينَ عَلَيْنَا حَاكِمِينَ فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَرْحَمُ الرَّعِيَّةَ، ثُمَّ قَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مَنْ لَا يَرْحَمُنَا عَلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فِي الْقَبْرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ مَعَ قَوْلِهِ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا اهـ.
وَالْأُولَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ التَّخْصِيصِ لَا تَخْلِيصَ عَنِ التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَلَبِ الْأُمُورِ السَّابِقَةِ مِنَ الْخَشْيَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَنْ لَا يَرْحَمُنَا لِكُفْرٍ، أَوْ عُتُوٍّ، أَوْ بِدْعَةٍ، أَوْ مِحْنَةٍ، نَحْوَ مَالٍ يُرِيدُهُ مِنَّا بِأَنْ تُجْعَلَ لَهُ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا عَلَى مَا يُرِيدُهُ مِنَّا، فَكُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَنْ عَادَانَا، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ وَبِمَا قَرَّرْتُهُ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا لَا يُغْنِي عَنْ هَذَا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ.
ثُمَّ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ فِتْنَةِ الصَّبْرِ عَنِ الْأَذِيَّةِ، خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ السَّائِلَ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ الْكَامِلُونَ النَّازِلُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: ١٧٧] وَإِنَّمَا سَأَلَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعَافِيَةَ أَوْسَعُ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَأَمَّا بَعْدُهُ فَيُحْكَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: ١٢٧] خِطَابًا لَهُ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦] فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِطَلَبِ التَّحَمُّلِ، وَيَدْعُونَ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: ١٢٦] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute