نَفَعًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّمَتُّعُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِبْقَاؤُهُمَا صَحِيحَيْنِ إِلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمْعِ مَا يُسْمَعُ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَبِالْبَصَرِ اعْتِبَارَ مَا يُرَى وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْقُوَى، (مَا أَحْيَيْتَنَا) أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِنَا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ بِالتَّمَتُّعِ مِنَ الْحَوَاسِّ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوصِلَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ طَرِيقِهِمَا، لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ إِنَّمَا تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْآيَاتِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّمْعِ، أَوْ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ فَسَأَلَ التَّمَتُّعَ بِهِمَا حَذَرًا مِنَ الِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، وَلَمَّا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْأَوَّلِينَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ، فَسَأَلَ الْقُوَّةَ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ اهـ.
وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ إِشَارَةً إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ حَتَّى فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ حِينَئِذٍ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا خُلِقَ أَبْكَمَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعَرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ، وَكَذَا بَعْدَ الْبَعْثَةِ لَا شَكَّ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الدِّينِيَّ بِالسَّمْعِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبَصَرِ، وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ بِخِلَافِ إِيمَانِ صَاحِبِ الْفَتْرَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ فَقَطْ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ قُوَّةُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ أَوْ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ وَجْهُ ذِكْرِ هَذَيْنِ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّارِحَ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ مُرَادَ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ سَابِقًا مَعَ دُخُولِهِمَا فِي تَعْمِيمِ قُوَّتِنَا لَاحِقًا لَا أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَنَّ الْفَرْقَ دَقِيقٌ وَبِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ، (وَاجْعَلْهُ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْنِي اجْعَلْ مَا مُتِّعْنَا بِهِ، (الْوَارِثَ) أَيِ الْبَاقِيَ (مِنَّا) بِأَنْ يَبْقَى مَا مَتَّعْتَنَا بِهِ إِلَى الْمَوْتِ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ أَوْ جَعَلًا الْوَارِثَ مِنْ عَشِيرَتِنَا، فَمِنَّا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ، وَالْوَارِثُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَمِنَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيِ اجْعَلِ الْوَارِثَ مِنْ نَسْلِنَا لَا كَلَالَةً خَارِجَةً عَنَّا قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْكَشَّافِ وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لِلْعُقَلَاءِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: ٥ - ٦] وَهَذَا أَوْلَى لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْفَائِدَةِ فَإِنَّ فِي قَوْلِنَا مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا مَا يُغْنِي عَنْ جَعْلِهَا كَالْوَارِثِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْوِيلِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: ٨٩] وَأَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعَقُّبِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ جَوَابِ اعْتِرَاضَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْوَارِثُ هُوَ الثَّانِي وَمِنَّا صِلَتُهُ، أَيِ اجْعَلِ التَّمْتِيعَ بَاقِيًا مِنَّا وَمَأْثُورًا فِيمَنْ بَعْدَنَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَفِّقْنَا لِحِيَازَةِ الْعِلْمِ لَا الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الَّذِي يَبْقَى مِنَّا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُوَّةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيِ اجْعَلِ الْمَذْكُورَ بَاقِيًا لَازِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ لُزُومَ الْوَارِثِ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ: يُرِيدُ اجْعَلْهَا سَالِمَةً لَازِمَةً مَعَنَا إِلَى الْمَوْتِ، وَبُولِغَ فِيهِ فَقِيلَ: اجْعَلْهَا كَأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْتِيعُ وَالْمَعْنَى اجْعَلْ تَمَتُّعَنَا بَاقِيًا مِنَّا مَحْفُوظًا لَنَا إِلَى يَوْمِ الْحَاجَةِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبْقِيَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ إِذَا أَدْرَكَهُ الْكِبَرُ، وَضَعُفَ مِنْهُ سَائِرُ الْقُوَى ; لِيَكُونَا وَارِثَيْ سَائِرِ الْقُوَى وَالْبَاقِينَ بَعْدَهَا اهـ.
وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قُوَّةُ السَّامِعَةِ وَالْبَاصِرَةِ أَنْفَعَ الْقُوَى خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَّمَ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ هَذَا الْفَيْضُ الْإِلَهِيُّ عَنْهُ وَعَنِ أَتْبَاعِهِ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ (وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا) بِالْهَمْزِ بَعْدَ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا مَقْصُورًا (عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا) وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَعَدَّى فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ فَأَخَذَ بِهِ غَيْرَ الْجَانِي كَمَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَرْجِعَ ظَالِمِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا مَظْلُومِينَ، وَأَصْلُ الثَّأْرِ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ، يُقَالُ ثَأَرْتُ الْقَتِيلَ وَبِالْقَتِيلِ أَيْ قَتَلْتُ قَاتِلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الثَّوَرَانِ يُقَالُ ثَارَ أَيْ هَاجَ غَضَبُهُ فَخَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَالَّذِي قَالَهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ فَلَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَادَّةِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَامُوسُ وَالنِّهَايَةُ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ ثَارَنَا بِالْأَلْفِ أَوْ كَانَ فِي نُسْخَتِهِ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ جَازَ إِبْدَالُهَا عِنْدَ الْكُلِّ، أَوِ اجْعَلْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا فَنُدْرِكَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ (وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute