وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ الرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَشْفِ الْغُمَّةِ وَمَوْقِعِ الشَّفَاعَةِ لِلْأُمَّةِ (إِنِّي تَوَجَّهْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَتَوَجَّهُ (بِكَ) : وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَاءِ الْأُولَى حَيْثُ جَعَلَهَا لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَفِي الثَّانِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَصْرُ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِعَانَةِ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا، وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْفَرْقُ الْجَلِيُّ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَشَارَ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي رِوَايَةٍ يَا مُحَمَّدُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنِّي تَوَجَّهْتُ (إِلَى رَبِّي لِيَقْضِيَ) : بِالْغَيْبَةِ أَيْ رَبِّي، وَقِيلَ بِالْخِطَابِ أَيْ: لِتَوَقُّعِ الْقَضَاءِ (لِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ) : وَجَعَلَهَا مَكَانًا لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي.
وَيَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي وَ (لِي) لِلْإِجْمَالِ حَتَّى يَفْصِلَ لِيَكُونَ أَوْقَعَ عَلَى طَرِيقَةِ: " اشْرَحْ لِي صَدْرِي "، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ مَا فَهِمَ كَلَامَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. وَقَالَ: اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً وَكَلَامُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِصَاصِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيقُ الْوَاسِعِ كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَغْفِرْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ: (لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» ) أَيْ: ضَيَّقْتَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ فَخَصَصْتَ بِهِ نَفْسَكَ دُونَ غَيْرِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ الْقَضَاءَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي زِيَادَةٍ فِي؟ فَأَجَابُوا فِيهِ وَأَمْثَالِهِ: أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِفِي إِنَّمَا هُوَ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِفِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي مَكَانٍ حَقِيقِيٍّ حَتَّى يُقَالَ هُنَا لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ لِلْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِكَ: نَظَرْتُ فِي الْكِتَابِ فَأَيُّ مُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَتَأَمَّلَ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ.
وَفِي أَصْلِ الْحِصْنِ: وَأَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِيَقْضِيَ لِي عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، (اللَّهُمَّ) : الْتِفَاتٌ ثَانٍ (فَشَفِّعْهُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: اقْبَلْ شَفَاعَتِي (فِي) : أَيْ: فِي حَقِّي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَتَوَجَّهُ أَيْ: اجْعَلْهُ شَفِيعًا لِي (" فَشَفِّعْهُ ") وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ) : مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: ٢٥٥] سَأَلَ اللَّهَ أَوَّلًا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ، ثُمَّ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ ثَانِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِلَى خِطَابِ اللَّهِ طَالِبًا مِنْهُ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّهِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute