وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: «وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا وَحَبِّبْ صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مِنْ سُؤَالِ حُبِّ الْمَسَاكِينِ فَمُحْتَمَلٌ، (وَالْعَمَلَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ أَيْ: وَحُبَّ الْعَمَلِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَقَطْ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدِهِ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الصَّالِحِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي يُبَلِّغُنِي) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُوصِلُنِي وَيُحَصِّلُ لِي (حُبَّكَ) : يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ» ) : أَيْ: حُبِّي إِيَّاكَ ( «أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي» ) : أَيْ: مِنْ حُبِّهِمَا حَتَّى أُوثِرَهُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْقَاضِي عَدَلَ عَنِ اجْعَلْ نَفْسَكَ مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ أَنْ يُقَابِلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: بَلْ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مُشَاكَلَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: ١١٦] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ، لَكِنِّي وَجَدْتُ الْمُشَاكَلَةَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ: «وَثَبَتَ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْتُلُوهَا) فَذَهَبَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهًا» ) .
وَأَمَّا قَوْلُ السُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يَتَقَدَّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] نَعَمْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ أَيْضًا: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ بِمَعْنَى التَّنَفُّسِ فَلَا يُطْلَقُ، وَحَيْثُ أَنَّ اللَّفْظَ مُوهِمٌ، فَجَوَازُ الْإِطْلَاقِ تَوْقِيفِيٌّ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَتَجْوِيزُ الشَّارِحِ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُوهِمٌ نَقْصًا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَأَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ وَذِكْرُهُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَاقِلَّانِيُّ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا فِيمَا لَا يُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ فَمُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِ الشَّارِحِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْفِتْ إِلَيْهِ، فَأَمْرٌ غَرِيبٌ وَنَهْيٌ عَجِيبٌ وَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ فَهْمِهِ، وَاقْتِصَارُ عِلْمِهِ عَلَى فِقْهِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ أَنَّ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَلَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُقَالَ اجْعَلْ حُبَّ نَفْسِكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَلَ إِلَيْهِ تَأَدُّبًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُقَابِلًا لِنَفْسِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَلَوْلَا هَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ وَأَطْلَقَ فَرْضًا، لَكَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ جَائِزًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ الشَّارِعُ، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَصِحُّ كَلَامُهُ بِالْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: ١١٦] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى إِلَخْ. تَطْوِيلٌ عَبَثٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ أَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ الشَّارِعِ، فَهَذَا كُفْرٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَشْوٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَذْهَبِ الْغَزَالِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَخَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ أَيْضًا إِذْ بَحْثُ الْمُشَاكَلَةِ أَعَمُّ مِنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَأَيْضًا مَذْهَبُهُمَا فِي الْمُخْتَرَعِ لَا فِيمَا وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَوْ وَرَدَ مِنْهُ فَرْضًا، فَلَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِهِ وَفَهْمِ مَرَامِهِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ
(وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) : دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا جِدًّا أَعَادَ مِنْ هَاهُنَا لِبَدَلِ اسْتِقْلَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي كَوْنِهِ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ بِالرُّوحِ. وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَى إِذَا وُجِدَ، وَلَا يُبَاعُ إِذَا فُقِدَ. وَعَنْ بَعْضِ الْعُرَفَاءِ إِذَا شَرِبْتُ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ صَمِيمِ قَلْبِي، وَيُمْكِنُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ رُوحِهِ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٣٠] فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ نَفْسِي مُرَادَاتُهَا وَمُشْتَهَيَاتُهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّارِحِ وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ إِلَخْ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِلْمَاءِ كَانَ بَاطِلًا بَلْ هُوَ مِثْلِيٌّ تَارَةً وَمُتَقَوِّمٌ أُخْرَى، وَإِنْ كُنِيَ بِذَلِكَ عَنْ نَفَاسَةِ الْمَاءِ كَانَتِ الْعِبَارَةُ قَاصِرَةً، وَكَانَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، لَا لِكَوْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute