للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، بَلْ لِتُوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ الْبَاطِلِ مِنْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْفِقْهِ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ، إِذِ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمِيِّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْجُهَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْفُضَلَاءِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَاضِلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفَاسَةَ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ أَحَدٍ لَا يَشْتَرِيهِ، فَلَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ عِنْدَهُ، وَإِذَا فُقِدَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَحَدٍ بِالْبَيْعِ صَحَّ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ قُصُورُ عِبَارَةِ فُقَهَائِهِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرُ الْمُنَاقَضَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ يُسَاوِي شَيْئًا سَوَاءً كَانَ مَاءً أَوْ حَجَرًا أَوْ طَعَامًا أَوْ شَجَرًا، لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَتَصْحِيحُ كَلَامِهِمْ نَفْيُ الْقِيمَةِ الْعَادِيَّةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: بَلْ لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَوْ مِنْ كَلَامِهِ، مَعَ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ مُتَعَلِّقِ اللَّامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ سَاوَى دَنَانِيرَ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا لِكَوْنِهِ يُسَوَّى بِالدَّنَانِيرِ، وَلَا لِكَوْنِهَا قِيمَةً لَهُ، وَهَذَا سَفْسَافٌ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ حَجَرًا إِذَا سَوَى أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَإِذَا كَانَ يَشْتَرِي الْمَاءَ بِالدَّنَانِيرِ لِتَوُقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قِيمَةً لَهُ؟

وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِلْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَاءُ إِذَا تَجَاوَزَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ جَازَ التَّيَمُّمُ، وَأَبَى الْحَسَنُ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي جَمِيعُ مَالِ الدُّنْيَا فَأَدْفَعُهُ إِلَى الْمَاءِ وَأَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَصِحُّ لِيَ التَّيَمُّمُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الْخَوَاصِّ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى الْحَرَجِ الْعَامِّ رَحْمَةً عَلَى الْعَوَامِّ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمُعْتَرِضَ مَا فَهِمَ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا حَقَّ التَّفَهُّمِ، بَلْ أَخَذَ عَنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَتَوَهَّمَ التَّقَدُّمَ.

وَمِمَّا يُلَائِمُ قَضِيَّةَ عِزَّةِ الْمَاءِ مَا حُكِيَ أَنَّ مَلِكًا وَقَعَ فِي صَحْرَاءَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ شَخْصٌ مَعَهُ مَاءٌ، فَطَلَبَ مِنْهُ فَأَبَى، فَعَرَضَ عَلَيْهِ نِصْفَ مُلْكِهِ، فَأَعْطَاهُ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ الشُّرْبِ عُسْرُ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لِلشَّخْصِ: إِنْ دَاوَيْتَهُ فَأُعْطِيكَ مُلْكِي كُلَّهُ، فَدَعَا لَهُ فَحَصَلَ لَهُ الْفَرَجُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمُلْكَ فَقَالَ: مُلْكٌ يَسْوِي نِصْفُهُ لِدُخُولِ شَرْبَةٍ، وَنِصْفُهُ لِخُرُوجِهَا لَا قِيمَةَ لَهُ. فَكَيْفَ أَخْتَارُهُ؟

وَكَذَا يَتَبَيَّنُ مَا وَرَدَ عَنْهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) يَعْنِي: فَالْحِكْمَةُ فِي إِطْعَامِهِمْ وَإِسْقَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ وَزِيَادَةِ إِنْعَامِهِمْ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا ذَكَرَ) : أَيْ: هُوَ (دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ) : أَيْ: يَحْكِي (يَقُولُ) : بَدَلٌ مِنْ يُحَدِّثُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَدِّثُ، (كَانَ) : أَيْ: دَاوُدُ (أَعْبَدَ الْبَشَرِ) : أَيْ: فِي زَمَانِهِ، كَذَا قَيَّدَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِطْلَاقِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إِلَّا لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْبَدِيَّةِ الْأَعْلَمِيَّةُ فَضْلًا مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَكْثَرُهُمْ شُكْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: ١٣] أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِي، وَابْذُلْ وُسْعَكَ فِيهِ، كَذَا وَذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ الْبَشَرِ شُكْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: ٣] نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيًّا أَنَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَنِهِ شُكْرًا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: ١٣] حَيْثُ اكْتَفَى مِنْ آلِ دَاوُدَ بِمُطْلَقِ عَمَلِ الشُّكْرِ، ثُمَّ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: ١٣] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الشَّكُورِ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَبِقَدْرِ مُتَابَعَتِهِمْ حَاصِلَةٌ لِلْأَصْفِيَاءِ، وَبِهَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنْ قَوْلِهِ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: ١٣] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ يُرْوَى مَرْفُوعًا جَزَاءً لِلشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اهـ. وَمُرَادُهُ أَنَّ الرَّفْعَ مُتَعَيِّنٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ إِذَا يَجْزِمُ كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ:

وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَحَمَّلِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْجَازِمَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ جَازِمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ لِعَدَمِ وُرُودِهِ رِوَايَةً.

لَكِنْ لَوْ وَرَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الدِّرَايَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَقْلًا وَاعْتِرَاضًا، حَيْثُ قَالَ بِالرَّفْعِ وَالسُّكُونِ، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي كُلِّ جَزَاءٍ شَرْطُهُ مَاضٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الشَّرْطِ الْجَازِمِ وَمَا هُنَا إِذَا وَهُوَ غَيْرُ جَازِمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>